كيان الأسدي*

لم يكن اختيار "إسرائيل" لاسم عمليتها الأخيرة في غزة بـ"عربات جدعون" مجرد مصادفة عسكرية أو اختيارًا بيروقراطيًا من هيئة الأركان، بل هو امتداد لخطاب ديني–عقائدي متجذر في بنية الكيان الصهيونية. خطاب لا ينفصل عن المعتقد التوراتي والتلمودي الذي يشكّل العمود الفقري لسياسات الكيان وحروبه منذ نشأته.

إن كثيرًا ممن ينادون بفصل الدين عن السياسة يغفلون –عن قصد أو جهل– حقيقة الصراع الذي نخوضه في هذه المنطقة. فالعدو لا يفصل الدين عن السياسة، بل يجعل منه نقطة الانطلاق، ويُسخّره كمرجعية مطلقة في بناء قراراته واستراتيجياته. "إسرائيل"، منذ لحظة تأسيسها، لم تكن كيانًا سياسيًا فقط، بل مشروعًا دينيًا–توسعيًا يستند إلى نصوص توراتية وتأويلات تلمودية تبرّر احتلال الأرض، وشن الحروب، وإبادة السكان الأصليين.

دلالة الاسم: جدعون… النبي والقائد العسكري

في هذا السياق، تُفهم تسمية العملية بـ"عربات جدعون" كرسالة رمزية واضحة. فجدعون، بحسب رواية "سفر القضاة" في العهد القديم، هو أحد قادة بني إسرائيل الذين خاضوا معركة فاصلة ضد المديانيين وانتصر فيها بعدد قليل من المقاتلين. يُقدّم في الموروث التوراتي كـ"القائد المختار من الرب"، الذي تحقق على يديه "المعجزة" رغم ضعف العدة والعدد.

أما العربات، فتمثل في ذلك الزمان ذروة القوة الحربية، كما ترمز اليوم إلى سطوة التكنولوجيا والصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة. وعليه، فإن الجيش الإسرائيلي، عبر استخدام هذا الاسم، يسعى لإيصال رسالة مزدوجة: من جهة يستدعي الأسطورة التوراتية ليمنح عمليته غلافًا دينيًا "مقدسًا"، ومن جهة أخرى يروّج لصورة الجيش "المصطفى" الذي يخوض حربًا حاسمة ضد "المديانيين الجدد" – أي فصائل المقاومة الفلسطينية.

العقيدة الحربية الصهيونية: الدين في خدمة السلاح

ما جرى في غزة ليس استثناءً، فغالبية العمليات العسكرية الإسرائيلية –مثل "عمود السحاب"، "الرصاص المصبوب"، "حارس الأسوار" وغيرها– تتوشح بأسماء مقتبسة من العهد القديم. هذا يعكس تغلغل العقيدة الدينية في بنية القرار العسكري، ويكشف كيف يُستخدم التاريخ المقدس كمبرر لسفك الدماء، وتبرير الاحتلال، وشيطنة العدو.

"إسرائيل" لا تخوض حروبًا سياسية بحتة، بل تشن "غزوات توراتية" مستمدة من سرديات الخلاص والاختيار الإلهي. من هنا نفهم كيف أن المؤسسة الأمنية والعسكرية لا تكتفي بتحقيق أهداف تكتيكية، بل تسعى لبناء صورة "الجيش المؤيَّد من الرب"، ما يُسهم –في تصورهم– في رفع معنويات الجنود، وترسيخ القناعة بأن الحرب قدر مقدّس لا بد من خوضه والانتصار فيه.

المفارقة… جدعون يهزم نفسه

لكن المفارقة التي لا يغفل عنها المراقب أن "إسرائيل" –رغم كل هذا الخطاب الديني والمزاعم العقائدية– باتت تواجه فشلًا تلو الآخر في كل حروبها على غزة. فمن يسمّي نفسه بـ"جدعون المنتصر" قد يُهزم أمام إرادة الشعوب الحرة، تمامًا كما فشلت كل الحملات السابقة التي حملت شعارات دينية وخُرافات توراتية، وانتهت أمام صمود المقاومة وشعب لم تُكسر إرادته رغم المجازر والحصار.

إن استدعاء الماضي التوراتي لن يمنح "إسرائيل" نصرًا في الحاضر، ولن يحميها من معادلات القوة الجديدة التي فرضتها المقاومة على الأرض. وإن استمرار التورط في هذا الخطاب الديني العسكري لا يكشف عن عمق الإيمان، بل عن عمق الأزمة الوجودية التي يعيشها كيان يعجز عن تحقيق أهدافه إلا بالاستنجاد بأساطير العهد القديم.

*المقال يعبر عن رأي الكاتب