انتهاء دور الأمم المتحدة
عماد الحطبة*
في الرابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1945، باشرت منظمة الأمم المتحدة عملها خليفةً لعصبة الأمم التي ثبت فشلها في فرض هيبتها على الدول المختلفة، ومنع اندلاع حرب عالمية جديدة.
أظهرت عصبة الأمم عبر تاريخها عجزاً كاملاً عن حلّ أيّ من النزاعات الدولية المهمة، أو الحروب البينية كما هي الحال في الحرب الأهلية الإسبانية، والغزو الياباني للصين الأول والثاني، والغزو الإيطالي للحبشة، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية 1939 والتي كانت المسمار الأخير في نعش المنظمة الدولية المتهاوية.
يعزو البعض فشل عصبة الأمم إلى عدم مشاركة الولايات المتحدة في عضويتها، ما حدّ من قدرة المنظمة على اتخاذ إجراءات اقتصادية أو عسكرية فعّالة تساعدها على تحقيق أهدافها.
رغم الدور الرئيسي الذي لعبه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في إنشاء عصبة الأمم على قاعدة مبادئه الأربعة عشر المعروفة، والتي ينص آخرها على: "يجب تشكيل جمعية عامة من الأمم بموجب المواثيق المحددة لغرض منح ضمانات متبادلة من الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول الكبرى والصغرى على حد سواء"، وهو المبدأ الذي تبنّته الدول المجتمعة في مؤتمر باريس للسلام (1919) لكن الكونغرس الأميركي بزعامة الجمهوريين رفض المصادقة على انضمام الولايات المتحدة إلى المنظمة الدولية بحجة أنها تكرّس مصالح الدول الأوروبية الاستعمارية، وتمنحها المكاسب التي تحققت بعد الانتصار في الحرب العالمية الأولى على حساب الولايات المتحدة.
بدأت فكرة تشكيل الأمم المتحدة عام 1941 وبمبادرة من رئيس أميركي جديد هو فرانكلين روزفلت، وجاءت تعبيراً عن تحالف القوى الأربع الكبرى التي تخوض الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، وهي الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد السوفياتي وبريطانيا، وقد ترسخت الفكرة لدى روزفلت بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر، واقترح تسمية المجلس المسؤول عن قرارات الحلفاء "رجال الشرطة الأربعة". شعر تشرشل بالتهديد لوجود الصين والاتحاد السوفياتي، فمارس ضغوطاً كبيرة لتنضم فرنسا إلى نادي الأربعة الكبار، وتشكل معهم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لتكون هذه المنظمة، كما وصفها أحد المسؤولين الدوليين السابقين بريان أوكهارت، "منظمة تستند نظرياً إلى مجموعة من القوى العظمى التي كان عداؤها المتبادل، كما اتضح في ما بعد، أكبر تهديد محتمل للسلام العالمي."
دخلت الولايات المتحدة إلى السياسة العالمية من ثلاثة أبواب واسعة: البوابة العسكرية التي تمثلت بالانتصار في الحرب العالمية الثانية، البوابة الاقتصادية التي فتحها مشروع مارشال، والبوابة السياسية التي دشّنها تأسيس الأمم المتحدة ونقل مقرها إلى نيويورك. كانت البوابات الثلاث تقود إلى الطريق نفسه، ألا وهو بسط الهيمنة الأميركية على العالم.
لم تمض سوى بضعة شهور حتى حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تمرير قرار في مجلس الأمن يدعو إلى سحب السفراء من مدريد للضغط على حكومة الجنرال فرانكو. وجد الاتحاد السوفياتي أن القرار "ناعم" جداً، فاستخدم ضده حق النقض "الفيتو" للمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، وكان ذلك في 16 شباط/فبراير 1946.
كانت الأزمة الكورية الاختبار الأول لقدرة الأمم المتحدة على فض النزاعات ووقف الحروب، فكان القراران 82 و83 لعام 1950 واللذان قاما بدعوة الدول الأعضاء إلى اتخاذ إجراءات عسكرية لوقف الحرب. انقسم الأعضاء الدائمون بين طرفي النزاع، ودفع الشعب الكوري 5 ملايين حياة في الحرب التي كان التدخل الكارثي للأمم المتحدة السبب الأهم في ارتفاع عدد ضحاياها.
منذ ذلك الفشل، لم تنجح الأمم المتحدة في إنهاء صراع أو حرب شنّتها الدول العظمى، وبشكل خاص، الغربية منها. جاءت الحرب الفيتنامية (1955 – 1975) لتحصد أرواح أكثر من 4 مليون إنسان، من دون أن تتمكّن الأمم المتحدة من التدخل بشكل حقيقي، بل إن القرار الأول سيتخذ بعد 10 سنوات من بداية الحرب، وهو القرار 211 لعام 1965 الذي دعا إلى وقف إطلاق النار، من دون أن يجد طريقه إلى التنفيذ لرفض الدول العظمى المتورطة في الحرب تنفيذه.
استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد قرارات تتعلق بفلسطين 49 مرة من أصل 88 مرة استخدمت فيها هذا الحق، أربعة من هذه القرارات كانت خلال المجزرة العلنية التي يرتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزّة، وكانت جميعها تتعلق بوقف إطلاق النار. اللافت أنّ القضية الثانية التي احتلت سلم أولويات الفيتو الأميركي كانت نظام الفصل العنصري في روديسيا، وهو نظام لم يختلف في جوهره عن المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.
اتخذ مجلس الأمن القرار 819 في نيسان/أبريل 1993 الذي أعلن مدينة سربرنيتشا اليوغسلافية منطقة آمنة وحظر الهجوم عليها، وعاد في عام 2011 لاتخاذ القرار 1441 الذي اتهم العراق بعدم التعاون مع بعثة المفتشين الدوليين، وفي عام 2011 اتخذ القرار رقم 1973 الذي أعلن الحظر الجوي على ليبيا وطالب بتنظيم هجمات على الجيش الليبي (سمّاها القرار قوات القذافي). في جميع هذه الحالات، انتهت الأمور إلى مجازر بحق الأبرياء، ملايين الأرواح أزهقت، ولم تنل من الأمم المتحدة سوى الإعراب عن القلق، ولجان التحقيق الفارغة المحتوى، والقرارات العاطفية التي تصدرها الجمعية العامة ولا تجد طريقها إلى التطبيق.
ما موقف القانون الدولي مما يحدث في غزّة؟ أكثر الأسئلة تردداً على المواقع واللقاءات الإخبارية، ولا يدّخر المحللون جهداً أو اقتباساً ليثبتوا أن الكيان الفاشي يناقض كل أحكام القانون الدولي، وأن العالم (المقصود الاستعمار) يتعامل بمعايير مزدوجة.
بعد نحو 80 عاماً من تأسيس الأمم المتحدة، ألا يحق لنا كضحايا التساؤل عمّا إذا كان هنالك قانون دولي فعلاً؟ ولماذا يلقى القانون الدولي في سلة المهملات عندما يتعلق الأمر بمصالح المستعمرين، ويصبح أساس الحكم عندما يتعلق الأمر بحقوق المقهورين؟ ألم يحن الوقت ليتمرد المقهورون على قانون المنتصرين، ويغادروا أممهم المتحدة، ويصنعوا قانونهم الخاص؟ قانون يخرج من فوهات بنادقهم، ومن إرادة المقاومة في صدورهم، ومن المثال الذي يقدمونه بصمودهم ووطنيتهم وحبهم لبلادهم، وليكن اسمه القانون الدولي للمقهورين.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب ـ موقع الميادين نت