كيف تحوّل اليمن إلى نموذج ثوري عالمي؟
خالد بركات*
في زمن الهزائمِ والتطبيعِ والانكسار أمامَ منظوماتِ الاستعمار والإمبريالية، يبرزُ اليمن، البلدُ الأعرق في شبهِ الجزيرةِ العربية، كأحدِ أكثرِ النماذجِ الثوريةِ إلهامًا واستثنائيةً في العالمِ اليوم. لم يعُد اليمن مجرّد ساحة صراعٍ أو "قضيةٍ إنسانية" كما حاول الإعلام الغربيُّ تصويرَه، بل بات، بفضلِ صموده وجرأتِه، قلبًا نابضًا في جبهة المقاومة، وشعلةً متقدةً في مواجهةِ الهيمنةِ الأمريكيةِ والصهيونية. إذ يُقدِّم اليمن -بشعبِه وقيادتِه الثوريةِ في صنعاءَ وقواتِه المسلحة- معادلةً فريدةً وجديدةً في تجاربِ الشعوبِ وحركاتِ التحررِ في مواجهةِ الإمبريالية وقوى الاحتلال والاستعمار.
لكنَّ المُدهش ليس فقط فيما أنجزَهُ اليمن من قدراتِ ردعٍ وصواريخ ومسيَّراتٍ حوّلت البحرَ الأحمرَ إلى ساحةِ اشتباك، بل أيضًا في الحاضنةِ الشعبيةِ الأممية التي بدأت تتشكّلُ حولَه، وتُعبّر عن نفسِها في مسيراتٍ شعبيةٍ في عواصمِ العالم، وبياناتِ الحركاتِ الثورية، واحتجاجاتِ الشعوب، ودهشةِ الشارعِ العالمي من "معجزةٍ يمنية" تقفُ عاريةً إلا من إرادتِها، في وجهِ الإمبرياليةِ الأمريكيةِ وحلفائِها.
هذه الدهشة التي عبّرت عنها وسائلُ إعلامٍ ومحلّلون غربيون، ليست مجرّد تعبيرٍ عن مفاجأةٍ تكتيكيةٍ أو تطوّرٍ نوعيٍّ في التسليح. إنها انعكاسٌ لحقيقةٍ أعمقَ: أن اليمنَ، بقواهُ الشعبية والمقاومة، استطاع أن يُعيدَ تعريفَ موازينِ القوةِ من منظورٍ ثوري جديد، وأن يُخلخل منطقَ الهيمنةِ القائم على التفوّق التكنولوجيِّ والردعِ النوويِّ وسيطرةِ رأسِ المال. إذ في الوقتِ الذي تنكسر فيه دولٌ كبرى في العالم أمام سطوةِ وجبروتِ أمريكا، وقفَ اليمن على الضفةِ الأخرى، وأعلن نزولَه إلى الميدان، كما يفعلُ الفارس اليقِظُ الشجاع في ساحةِ المعركة.
كيف لفقراءِ اليمنِ المحاصَرينَ منذ عشرِ سنواتٍ – على الأقل – الذين يفتقدون لأبسطِ مقوّماتِ الصمودِ والحياة، أن يفرضوا معادلةَ ردعٍ على أساطيل أمريكيةٍ وبريطانية؟
كيف لقوة "محدودةٍ" من حيث الموارد، أن تُحاصرَ ميناءَ أمّ الرشراش في فلسطين المحتلّة، وتمنعَ عبور السفن الصهيونيةِ من المضائقِ البحرية؟
كيف استطاع اليمن أن يضعَ نفسَه في موقعِ الفعلِ الاستراتيجيّ، بينما تخلّت عنه أغلبُ الأنظمةِ العربيةِ والإسلامية؟
كيف انتقل اليمن من الهامشِ إلى المركز.. وصار إذا قالَ، فعل!؟
هذه الأسئلةُ نفسُها هي ما يدفعُ الشعوبَ الحرةَ والحركاتِ الثوريةَ حولَ العالم إلى التعاطفِ والانبهارِ والدعمِ العلنيِّ للموقفِ اليمني.
فالمسألةُ لم تعُد فقط دعمًا لفلسطين والمقاومة في غزّة، بل احتضانًا لتجربةِ مقاومةٍ صاعدةٍ، صُلبةٍ، لا تخجلُ من إعلانِ موقفِها بوضوح: ضد الإمبريالية، ضد الصهيونية، ضد الهيمنة الغربية.
في هذا السياقِ الأمميِّ المتصاعد لدعمِ اليمن، أطلقت "حركةُ المسارِ الثوري الفلسطيني البديل"، قبل نحو عام، في يونيو/حزيران 2024، عريضةً دوليةً بثلاثِ لُغاتٍ لتأييدِ الموقفِ اليمنيِّ في مواجهةِ العدوان الأمريكيِّ والبريطاني، والدفاعِ عن فلسطين. وقد لاقت هذه المبادرةُ صدىً واسعًا، حيثُ وقّع عليها حتى اللحظة آلاف الشخصيات، والمئاتُ من المنظماتِ الشعبيةِ والنقابيةِ والحركاتِ التحررية من مختلفِ القارات. عبّرت هذه العريضةُ عن التقاء حقيقيٍّ بين نضالاتِ الشعوب، وعن إدراكٍ متزايدٍ بأن ما يجري في صنعاء هو شأنٌ أمميٌّ يهمُّ أحرارَ العالم، لا شأنًا محليًّا أو إقليميًّا فقط.
إن هذه الحملةَ، التي انطلقت من بطن المركز الإمبريالي، امتدّت إلى المدن الأوروبية والأمريكية واللاتينية والإفريقية، وتشكلُ تعبيرًا عمليًّا عن الحاضنة الشعبيةِ الأممية التي وجدت في الموقفَ اليمنيّ جزءًا أصيلاً من جبهةِ المقاومةِ المناهضةِ للإمبرياليةِ والصهيونية، وتؤسّسُ لتضامنٍ ثوريٍّ أمميٍّ يتجاوز البيانات إلى الفعل. وتفتحُ الباب واسعًا لتحقيق آمالِ الشعوب في التغييرِ الثوري والتحرّر.
ليست الحركات التحررية في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا، وامتداداتها في أوروبا وامريكا الشمالية من السود والسكان الأصلين، بعيدةً عن فهم التحدّي الذي يخوضه اليمن. فهؤلاء رأوا كيف حوّل الغرب قضايا التحرر إلى "أزماتٍ إنسانية"، وكيف حاصرَ كلَّ من خرج عن الطاعة. وهم يعرفون أن ما يتعرّض له اليمن هو نموذجٌ لما يمكن أن يواجهوه هم أنفسهم إن تجرّؤوا على المقاومة. لذلك، فإن وقوف هذه الحركاتِ إلى جانب اليمن، لم يأتِ فقط من باب التضامن الأخلاقي، بل من إدراكٍ عميقٍ بأن نجاح اليمن هو نجاحٌ لكلِّ من يحلمُ بكسر القيد، وبهزيمة الهيمنة الأمريكية، وخاصةً في الجنوبِ العالمي.
ففي اليمن، يرون ما يشبههم: شعوبًا تُنهَب ثرواتُها، جموع الفقراء المحاصَرين الذين يقاتلون، المهمّشين الذين يصنعون القرار، الريفيين الذين يواجهون العولمة، الصامدين في وجه أكبر تحالفات العالم. وفي اليمن، يرون درسًا عمليًّا بأن الإمبريالية ليست قَدَرًا.
ورغم التراجع الذي أظهرَته الولاياتُ المتحدةُ وحلفاؤها في وجهِ الردع اليمنيّ — حيث اضطرت واشنطنُ مرّتين إلى التهدئة، وتخفيفِ حدة الضربات ثم وقفها، بعد أن فوجئت بمدى الجاهزية اليمنية وقوةِ الرد — إلا أن هذا التراجع لا يعني نهايةَ المعركة، ولا يعني أن القوى الإمبرياليةَ قد رفعت يدها عن اليمن. بل على العكس، تشيرُ التقارير والتحركات العسكرية إلى أن الولاياتِ المتحدة، ومعها بريطانيا و"إسرائيل"، تعمل بهدوءٍ على إعادة تموضعِها، وتخططُ لمرحلةٍ جديدةٍ من التصعيد، سواء عبر الهجمات المباشرة، أو أدوات الحرب الاقتصادية، والحصار الإعلامي، وتشويهِ صورةِ المقاومة اليمنية.
وهذا ما يُحتِّمُ على القوى الثوريةِ والضمائرِ الحية في العالم أن ترفعَ وتيرةَ دعمها لليمن، وأن تستعدَّ لمعركةٍ طويلة، لا تُقاسُ فقط بعدد الصواريخ، بل بثباتِ الشعوب، ووضوحِ بوصلتِها. وأن تدفع نحو ضرورة النضالِ لتصفيةِ القواعدِ الأمريكية من بلدانِها، بالعملِ الشعبي والمسلّح.
التحوّلُ اليمنيُّ من موضع الدفاعِ إلى المبادرة، ومن الضحيةِ إلى الفاعل، هو ما يجعل منه نموذجًا ثوريًا. فاليمن لم يكتفِ بالرّد، بل ربطَ نضالَه الوطنيَّ بالدفاع عن فلسطين ولبنان وإيران، وخاض معركتَه تحت راية القدس وفي مواجهة حرب الإبادة في قطاع غزة، ووجّه بوصلتَه جنوبًا نحو البحرِ الأحمر، وغربًا نحو سواحلِ إفريقيا، وشمالًا إلى عمقِ فلسطين المحتلة.
هذا التوسّعُ في الفعلِ النضالي، جعل من التجربةِ اليمنيةِ قابلةً للاستلهام، وفتحَ البابَ أمام بناءِ جبهةٍ عالميةٍ جديدةٍ للمقاومةِ الشعبية، تتجاوزُ الشعاراتِ، وتدخلُ ميدانَ الاشتباكِ المباشر مع أدواتِ الهيمنةِ العسكرية والاقتصادية والسياسية. كما قطعَ اليمنُ الطريق على كل من احترفوا التبريرَ لتقاعسِهم عن أداءِ دورهم، ومسؤوليتهم الأخلاقية، والقومية، والإنسانية.
ليس من المبالغةِ القولُ إن اليمن، الذي اكتشفَ ذاتَه وموقعَه، قد أطلقَ موجةَ وعيٍ ثوريٍّ عالميٍّ جديد، يُذكّرُ بحركاتِ التحرّرِ في القرن العشرين، حين كانت كوبا رمزًا، وفيتنام مثلًا، والجزائر أيقونة. واليوم، يُعيد اليمن هذه الروح، ويستدعي تلك النماذج، لكن بلغةِ العصر، وبإمكاناتِ الشعوب الفقيرةِ التي تصنعُ المعجزات، وبهويةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ إنسانية جديدة.
إن الحاضنةَ الشعبيةَ الأمميةَ لليمنِ الثوري ليست مجردَ حالةِ تضامن، بل هي مؤشرٌ على تشكلِ تيارٍ عالميٍّ جديد، يرى في مقاومةِ الهيمنة مشروعًا مشتركًا، وفي النموذجِ اليمني أحدَ أبرز عناوينِه. هذه الحاضنة ما كان لها أن تولدَ لولا صمودُ الناسِ في ساحاتِ اليمن، وتفاهُمُهم حولَ قضيتِهم المركَزية، فلسطين، ووقفهم مع قيادتِهم الثوريةِ الصُّلبة، وجيشِهم الذي لا يعرف معنى الرضوخ والاستسلام.
* كاتب عربي من فلسطين
* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت