السياسية || محمد محسن الجوهري*

منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، ظهرت معالم مشروع جديد في المنطقة، يختلف جذريًا عن المشاريع التي عرفها العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، سواء من حيث المرجعية الفكرية أو من حيث الأهداف الإستراتيجية. المشروع الإيراني لم يأتِ بوصفه امتدادًا لإمبراطوريات تاريخية، ولا كمغامرة قومية فارغة، بل كمشروع تحرري يضع فلسطين في قلب عقيدته، ويسعى إلى كسر الهيمنة الصهيونية والغربية على القرار العربي.

في اللحظة التي أسقطت فيها الثورة الإسلامية نظام الشاه، أول ما فعلته هو طرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من طهران، وتحويل السفارة الصهيونية إلى سفارة لفلسطين، لتكون إيران أول دولة في العالم تتخذ هذه الخطوة الرمزية والجوهرية. لم يكن ذلك مجرد موقف عابر، بل تأسيس لرؤية إستراتيجية تعتبر أن تحرير القدس هو واجب ديني وثوري، وأن دعم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن ليس خيارًا تكتيكيًا بل التزامًا ثابتًا.

حين اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982م ووصلت إلى بيروت، كانت القوى العربية صامتة أو متواطئة، أما إيران فقد سارعت إلى إرسال الدعم السياسي والعسكري إلى المقاومة، وأسست نواة قوة لبنانية حقيقية عُرفت لاحقًا باسم "حزب الله"، الذي تحوّل خلال العقود اللاحقة إلى رأس حربة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وقد تحقق إنجاز غير مسبوق في تاريخ الصراع، حين أجبرت المقاومة المدعومة من إيران إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000م دون قيد أو شرط، وهو ما لم تحققه جيوش كاملة لدول عربية كبرى.

لو كان المشروع الإيراني توسعيًا أو مذهبيًا كما يُروّج له خصومه، لكان الهدف هو فرض الهيمنة على لبنان أو ابتلاعه، لكن الواقع أن إيران دعمت مقاومة لبنانية مستقلة القرار، متجذرة في أرضها، ولم تفرض عليها نموذجًا سياسيًا أو مذهبيًا معينًا، بل ساعدتها على فرض معادلة ردع متكاملة ضد العدو الإسرائيلي.

رغم أن إيران ليست دولة عربية، ولم تحتل شبراً من أرض فلسطين، إلا أنها قدمت لفصائل المقاومة الفلسطينية ما لم تقدمه أغلب الأنظمة العربية: المال، والسلاح، والخبرة. وساهم الدعم الإيراني في تطوير قدرات حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ما جعل قطاع غزة اليوم يشكّل نقطة اشتباك فعالة تُربك حسابات الكيان الصهيوني. ولم يكن ذلك بدافع نفعي، بل لأنه جزء من عقيدة الدولة الإيرانية، التي تعتبر "زوال إسرائيل" وعدًا قرآنيًا لا بد من تحقيقه.

وفي الوقت الذي كانت فيه بعض العواصم العربية تطبّع مع الاحتلال، وتمنع أي شكل من أشكال الدعم عن المقاومة، كانت إيران تعلن صراحة أنها تدعم فصائل المقاومة بكل الوسائل الممكنة، دون اشتراطات سياسية، ودون أن تطلب مقابلًا سوى استمرار المقاومة.

بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، لم يكن لإيران مصلحة في أن يبقى العراق تحت الاحتلال الأمريكي أو أن يتحوّل إلى قاعدة صهيونية متقدمة. لذلك دعمت طهران فصائل المقاومة العراقية التي أجبرت قوات الاحتلال على الانسحاب رسميًا عام 2011م. ورغم كل ما قيل عن النفوذ الإيراني في العراق، فإن المشروع الأمريكي هو من بدأ الاحتلال، بينما كانت إيران تدعم القوى الشعبية التي تنتمي للهوية العراقية، وتسعى لاستعادة السيادة الوطنية.

وفي سورية، حين اجتمع العالم لإسقاط الدولة وتحويلها إلى كيان مفكك يخضع للنفوذ الإسرائيلي والأمريكي والتركي، وقفت إيران إلى جانب الدولة السورية، لا لأنها حليفة طائفية، بل لأنها رأت أن إسقاط سورية هو مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية. فالموقع الجغرافي والرمزية السياسية لسورية لا يمكن فصلها عن الصراع مع إسرائيل. وإيران لم ترسل الجيوش إلى دمشق، بل قدمت الخبرات والسلاح والدعم السياسي لتمكين الشعب السوري من الصمود في وجه المؤامرة متعددة الجنسيات.

أما في اليمن، فقد دعمت إيران صمود الشعب اليمني في وجه تحالف العدوان بقيادة السعودية والإمارات، لا بدافع السيطرة أو التوسع، بل لأن الحرب كانت واضحة الأهداف: القضاء على أي مكوّن يرفض التطبيع أو يرفع شعار فلسطين. واليوم، تقف صنعاء في قلب محور المقاومة، وتتحدث بصوت مختلف، لم يكن ليُسمع لولا الدعم الذي قلب موازين القوى.

المشروع الإيراني في جوهره ليس مشروعًا توسعيًا، بل تحرريًا، يستند إلى عقيدة إيمانية ورؤية إستراتيجية تعتبر أن قوة إيران الحقيقية لا تكون في فرض النفوذ على العواصم، بل في بناء تحالفات مقاومة تُحاصر المشروع الصهيوني وتكسر أدواته في الداخل العربي. إيران لا تريد أن تحكم العرب، بل أن تساعدهم على التحرر من الذين يحكمونهم بالوكالة عن واشنطن وتل أبيب.

وحين يُشيطن هذا المشروع من قبل الأنظمة العميلة أو الأقلام المأجورة، فليس لأن إيران تسرق خيرات العرب، بل لأنها تسلّح من يقاتل إسرائيل، وتُربك مشاريع الهيمنة الغربية. والواقع أن من يُتّهم بالتوسع، هو من يقاوم الهيمنة، بينما من يرضى بالاحتلال والتطبيع يُنظر إليه كـ"شريك استراتيجي" و"حليف معتدل".

في ميزان الوعي، لا يُقاس المشروع الإيراني بحجم نفوذه، بل بطبيعة أهدافه. وقد أثبتت الوقائع أن طهران اختارت طريق دعم الشعوب لا قهرها، ومناصرة القضية لا مقايضتها، وبناء محور مقاومة لا إمبراطورية هيمنة.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب