التعليم الزراعي… البذرة التي لم تكتمل زراعتها
محمد صالح حاتم*
«إذا أردت أن تزرع لعام، فازرع قمحا. وإذا أردت أن تزرع لعشرة أعوام، فازرع شجرة. وإذا أردت أن تزرع لمئة عام، فازرع إنسانا». مثل صيني
منذ عقود طويلة، كان الحديث عن الزراعة مجرد شعار يرفع هنا وهناك، أو أمنية نهمس بها حين يضيق بنا الحال. لكننا اليوم أمام مشهد مختلف تمامًا. ثورة زراعية حقيقية تتشكل على الأرض. الناس يعودون إلى مزارعهم بشغف، والمبادرات المجتمعية تزرع الأشجار، وتستصلح الأرض، وتبني السدود والحواجز، والحديث عن الاكتفاء الذاتي أصبح جزءًا من كل خطاب رسمي وشعبي. لأول مرة منذ عقود نشعر أن الأمل بدأ يورق في هذه الأرض الطيبة، وأننا بدأنا نستعيد إيماننا بأن الأرض هي البقاء والكرامة.
ومع هذا كله، يطل علينا سؤال ثقيل يقضّ مضجع كل من يراقب المشهد عن قرب: من سيدير كل هذه الأرض؟ من سيخطط لها ويطورها؟ من سيقف إلى جانب المزارعين ليرشدهم ويحسن إنتاجهم؟ من سيواكب التطور الحاصل، ويتعامل مع التكنولوجي الحديثة في الزراعة، من سيتابع المتغيرات المناخية، بل أين العقول التي تستطيع أن تحول هذا الحراك الشعبي إلى تنمية مستدامة لا تتوقف عند حدود المواسم؟
الحقيقة المؤلمة أننا، مع كل هذه الجهود، ما زلنا نعاني من فراغ خطير في التعليم الزراعي والبيطري. كليات الزراعة والبيطرة والمعاهد الزراعية تبدو شبه خاوية. أعداد الطلاب الذين يلتحقون بها في تناقص مستمر، بعد أن شهدت بعض التحسن في الأعوام الخمسة الماضية. كثير من الشباب باتوا ينظرون لهذه التخصصات على أنها مهن تقليدية متعبة لا مستقبل لها، بينما تتجه أنظارهم نحو كليات يعتقدون أن لها سوقا مضمونا مثل الطب والهندسة.
هنا يظهر الخلل الكبير. نحن نزرع الأرض، ونبذر فيها، وتنمو الأشجار ونملأ الأرض بالخضرة، لكننا ننسى أن هذه الأرض بحاجة إلى عقل وفكر وعلم، لا مجرد أيدٍ تعمل. شبابنا اليوم بحاجة إلى أن نفهمهم أن الزراعة لم تعد محراثًا خشبيا على كتف فلاح، بل صارت علما وتقنية وصناعة لها مستقبل اقتصادي كبير.
وللإنصاف، فإن القيادة الثورية والسياسية أولت القطاع الزراعي اهتماما كبيرا، لم نجد قيادة اهتمت بالزراعة، مثلما هي قيادتنا اليوم، والتي أكدت في أكثر من مناسبة أن الزراعة هي ركيزة الاكتفاء والسيادة، وحكومة التغيير والبناء هي الأخرى جعلت من هذا القطاع أولوية، وأطلقت برامج ومبادرات لإشراك الناس وتحفيزهم على حماية أرضهم واستغلال مواردهم.
لكننا بحاجة أن نقول بوضوح: الأرض وحدها لا تكفي. لا قيمة للحقل إن لم يجد من يديره بعلم وحب ومعرفة. لا نريد أن نستيقظ بعد سنوات لنكتشف أننا كنا نحرث البحر.
نحن بحاجة ماسة إلى جيل جديد من المهندسين الزراعيين، والمرشدين، ومهندسي التربة والمياه، والموارد والمناخ وأطباء بيطريين، ومختصين في وقاية النبات وتغذية الحيوان. التنمية الزراعية لم تعد عملاً بدائيا، بل منظومة علمية متكاملة تحتاج إلى كل هذه التخصصات لتؤتي ثمارها.
ولذلك، نحن بحاجة إلى حملات توعية واسعة لتوعية المجتمع بأهمية هذه التخصصات. نحتاج أن نقدم حوافز مغرية للطلاب، وأن نضمن لهم فرص عمل بعد التخرج، وأن يتم استيعاب جميع الخريجين، وأن نربط التعليم الزراعي مباشرة بالمشاريع القائمة في القرى والمدن، ليشعر الطالب بأن ما يتعلمه يجد تطبيقا على الأرض.
إن كل هذا الحراك، بكل ما فيه من مبادرات ومشاريع، وتوسع في المساحات وزيادة في الإنتاج، يبقى ناقصا إن لم يجد من يديره بعقول خضراء. لن نبني اكتفاءً ذاتيا حقيقيا بالمساحات الخضراء وحدها، بل بالعقول التي تديرها.
فلنزرع في العقول أولًا. فحين نفعل، سنحصد وطنا مختلفا، قادرا أن يعيش من خيرات أرضه وعرق أبنائه.
*المقال يعبر عن رأي الكاتب