السياسية || محمد محسن الجوهري*

بدأت في الآونة الأخيرة رائحة الخيانة تفوح من بعض الأوساط المحلية، ممزوجةً بمالٍ سياسي قذر، يأتي – كالعادة - من الرياض وأبوظبي، لتلبس ثوب "الواقعية" و"السيادة الوطنية"، لكنها في حقيقتها ليست سوى ستار للتطبيع وتصفية القضية الفلسطينية. هذه الخيانة لم تعد تهمس في الزوايا، بل صارت تنطق على ألسنة مرتزقة لا يعرفون من الشرف ولا من الكرامة شيئًا، وعلى رأسهم العفافيش الذين اعتادوا الوقوف حيث يقف المال، لا حيث تقف المبادئ. هؤلاء يروّجون لفكرة أن فلسطين لا تعنينا، وأنها "شأن خارجي" لا يخص اليمن، وكأننا قطعان بلا ذاكرة، ولا روابط دينية أو قومية أو إنسانية.

مثل هذا الصوت النشاز لم يقتصر على الساحة اليمنية، بل بدأ يتكرر بنغمة مشابهة في سورية بعد سقوط نظام الأسد، حيث يسعى النظام الجديد لإظهار نفسه كسلطة "عاقلة"، تتهرب من الاصطفاف مع القضايا الكبرى للأمة، وعلى رأسها فلسطين. هذا النظام الذي زعم في بداياته أنه يحمل راية التحرير والمقاومة، ما لبث أن خلع تلك الراية وارتدى ثوب الصمت المطبق. وبين المثالين اليمني والسوري، يتضح أن العامل المشترك هو المال الخليجي المدنس، الذي أصبح أداة لتوجيه سياسات الأنظمة الجديدة نحو التطبيع والانفصال عن نبض الأمة الحقيقي.

إن الصوت الذي ينادي بفلسطين لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل هو صوت الأحرار في كل العالم، وصرخة الضمير الإنساني ضد الظلم والاستعمار. فما يجري في فلسطين ليس مجرد صراع على الأرض، بل مأساة إنسانية مستمرة منذ أكثر من سبعين عامًا، ومظلومية تاريخية تتجدد يومًا بعد يوم أمام أعين العالم. إن التخلّي عن فلسطين هو خيانة لكل المبادئ التي نرفعها ونؤمن بها، وخذلانٌ لا يغتفر في ميزان الأخلاق والحق. فلا معنى لأي شعار نردده عن الحرية أو العدالة ونحن نتجاهل شعبًا يُذبح، ويُشرّد، ويُحاصر أمام أعيننا.

وما يعزز من حجم الفضيحة أن هذه الدعوات للتخلي عن فلسطين تتعارض بشكل صريح مع جوهر انتمائنا العقائدي. فالإسلام لا يقبل أن يقف المسلم متفرجًا على ظلم يقع على إخوانه، بل يأمره أن يكون عونًا للمظلوم، ولو كان في أقصى الأرض. فكيف إذا كان المظلوم هو أخوك في الدين، والعقيدة، واللغة، والتاريخ؟ كيف تصمت، أو تبرر الصمت، أو تروّج له، بينما تُنتهك مقدساتك ويُقتل إخوتك على أيدي الصهاينة وعملائهم؟! إن هذا ليس فقط تخليًا عن فلسطين، بل هو تخلي عن الإسلام ذاته، وعن أبسط معاني الأخوة والنخوة والشرف.

ثم تأتي الكارثة الكبرى: أن هذا الخطاب الانعزالي، القومي الضيق، الذي يُبرر عدم نصرة فلسطين بذريعة "السيادة الوطنية" أو "الحدود الجغرافية"، ما هو إلا إعادة إنتاج واضحة لمخططات سايكس بيكو التي مزّقت الأمة إلى كيانات مصطنعة، وزرعت بينها النزاع والحقد والانغلاق. المؤلم أن بعض أبناء هذه الأمة صاروا يكررون نفس المنطق الذي كتبه المستعمرون قبل قرن من الزمان، بل ويدافعون عنه باستماتة، وكأنهم لا يدركون أنهم ينفذون حرفيًا ما أرادته بريطانيا وفرنسا: أممٌ مقسّمة، ضعيفة، لا تنصر بعضها، ولا تعرف من العزة سوى الأعلام والنشيد الوطني.

في زمن تتداخل فيه الخنادق وتختلط فيه الألوان، تبقى فلسطين هي البوصلة التي لا تخطئ، والميزان الذي نزن به الرجال والمواقف. من ناصرها فقد انتصر للحق، ومن خذلها فقد باع دينه وشرفه وإنسانيته بثمنٍ بخس. ليست فلسطين عبئًا على أحد، بل شرفٌ يتبرأ منه الجبناء، ويتعلق به الأحرار.

فاحذروا من صوت الخيانة، وإن جاءكم مدهونًا بلغة الوطنية، فإن في كل تنازل عن فلسطين خطوة نحو الهاوية، وفي كل تخلٍّ عنها خيانة لله ولرسوله وللمستضعفين.
فلسطين ستبقى قضية الأحرار الأولى، ولن تسقط، إلا إذا سقطت ضمائرنا... ولن تسقط.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب