السياسية || محمد محسن الجوهري*

للدكتور مصطفى محمود الكثير من الأراء المنشورة في كتبه ومقالاته عن رياضة كرة القدم، وكيف أصبحت ديناً جديداً يتعصب له الشباب أكثر من دينهم وقضاياهم المصيرية، ويرى بأن ذلك التقديس لكرة القدم يتركز أكثر لدى الشعوب المتخلفة التي لا هم لها سوى العبث بالوقت دون جدوى، بخلاف الأمم المتقدمة التي ترى في كرة القدم وسيلة لتحقيق غايات سياسية واقتصادية كبرى، منها جنى الأموال الطائلة والتبييض الرياضي، وغير ذلك مما يخدم أهداف استعمارية غربية.

وفي مقال للكاتب الجزائري "أمين الزاوي" بعنوان " الدين وكرة القدم: من يلعب بمن؟" تزامن مع نهائيات كأس العالم الأخيرة في قطر، أكد فيه أن إن كرة القدم أصبحت ديناً عالمياً جديداً، وأنها أفيون الشعوب وأن هذا الدين الجديد هو الابن الشرعي لأكبر الرأسماليات العالمية العابرة للقارات، وأضحى يحرك الدين السماوي ويتقاذفه كما يتقاذف اللاعبون الكرة الجلدية.

وذكر بـ "أن مليارات من البشر الذين يتابعون كرة القدم ما هم إلا عبارة عن سجل تجاري مهم للاستهلاك في عيون الشركات المتخصصة في الألبسة والمشروبات الكحولية وغير الكحولية والهواتف والفنادق والمطاعم وشركات النقل الـتأمين واستوديوهات الموسيقى والبنوك."
بعيداً عن أراء المفكرين العرب، فإن كرة القدم احتلت مساحة واسعة من اهتمام النشء العربي، وبات البعض منهم يتعصب لفريقه بشكل متطرف، ورأينا على الساحة خلافات وصراعات شبابية وغير شبابية منشؤها كرة القدم والتعصب لأندية ولاعبين لا يملكون من أمرهم شيئاً، وباتوا أشبه بعبيد تباع وتشترى في سوق النخاسة الجديد، وهذا يعكس حالة من الفراغ الفكري لدى العامة، ولا نستبعد أن يكون مدروساً من قبل جهات أجنبية تعنى بتوجيه الرأي العام لأهداف خاصة بها.

ونذكر هنا أن المفكر الأمريكي الكبير "نعوم تشومسكي" كثيرًا ما تحدث عن كيف تُستخدم الرياضة، وخاصة كرة القدم في البلدان غير الأمريكية، كوسيلة "إلهاء جماعي، لصرف انتباه الجماهير عن قضاياهم الحقيقية، وصناعة انتماءات وهمية بدلًا من انخراط سياسي واعٍ، كما أن إدواردو غاليانو – المفكر والكاتب الأوروغوياني تحدث في كتابه الشهير "كرة القدم بين الشمس والظل"، عن تحول اللعبة إلى "سوق" بدل أن تبقى فرحًا شعبيًا، ووصف كيف أن الرأسمالية حوّلت اللاعبين إلى سلع، والمشجعين إلى مستهلكين.

الإعلام، من جهته، لعب دورًا جوهريًا في تحويل كرة القدم إلى "دين عصري". عبر التكرار، والإثارة، والقصص المحبوكة، صنع الإعلام سرديات حول الأندية والنجوم، وأسهم في بناء هالة القداسة حولهم. كما أدّى إلى خلق حالة من الإلهاء الجماعي، تبتلع وعي الجماهير وتُشغلهم عن القضايا المصيرية. في كثير من الأحيان، تستخدم كرة القدم كأداة تهدئة اجتماعية، أو حتى لتغطية على الأزمات السياسية والاقتصادية.

في العالم العربي، لم تكن كرة القدم يومًا بعيدة عن توظيف الأنظمة السياسية لها، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى أداة فعّالة لكسب الولاء الشعبي أو تصدير الفشل الداخلي. فحين تعجز الحكومات عن تلبية توجهات الشعوب الكبرى، كنصرة غزة والقضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع، تستثمر في الرمزية العاطفية التي تولدها الانتصارات الكروية، لتغطي على الإخفاقات وتعيد توجيه الانتباه العام بعيدًا عن القضايا الجوهرية. لا يخفى كيف يُضخّم نجاح المنتخب الوطني أو أحد الأندية ليُقدّم كإنجاز للدولة بأكملها، فيرفع الإعلام الرسمي منسوب الوطنية ويُعاد بناء صورة النظام من خلال صور اللاعبين والهتافات الجماهيرية.

الأمر لا يقف عند حد استغلال البطولات أو استضافة الأحداث الرياضية الكبرى لتلميع الصورة داخليًا وخارجيًا، بل يصل إلى تغذية الصراعات الكروية بين الجماهير نفسها، بحيث تتحول مباريات الدوري إلى ساحات فرز اجتماعي وهوياتي مشحون. تُعاد إنتاج ثنائيات حادة تستهلك العاطفة والانتباه، مثل ريال مدريد وبرشلونة، أو الأهلي والزمالك في مصر، أو الهلال والنصر في السعودية، وتُضخ هذه الانقسامات عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى تُصبح شاغلًا يوميًا للملايين، وتُفرغ الطاقة الجماهيرية في جدالات رياضية لا طائل منها.

هذه الاستقطابات المفتعلة ليست بريئة، بل تخدم نظامًا سياسيًا وإعلاميًا يدرك أن الجموع المنغمسة في هوس الكرة لن تسائل السلطة ولا توجّه غضبها نحو قضاياها المصيرية أو الاستبداد. فالولاء للنادي يُستدعى ليحلّ محل الولاء للدين، والانتصار في مباراة يُقدم كتعويض نفسي عن الانكسار في الواقع. وهكذا، تتحول كرة القدم إلى دين بديل، يملأ الفراغ الروحي والسياسي، لكنه لا يقدّم حلولًا، بل يديم حالة من الاغتراب والاندماج في واقع زائف.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب