اندثار وهم الحداثة.. مراكز اللغات لم تعد ضرورة في زمن الذكاء الاصطناعي
السياسية || محمد محسن الجوهري*
حتى وقتٍ قريب، كانت مراكز تعليم اللغات تُعدّ بوابة العبور الأولى إلى العالم الحديث، ووسيلة للارتقاء المهني والاجتماعي، بل وأحيانًا أداة لتعزيز الشعور بالقرب من الثقافة الغربية. اعتُبرت اللغة الإنجليزية، على وجه الخصوص، أكثر من مجرد وسيلة تواصل؛ بل رمزًا للتحضّر والانفتاح. وقد بنَت مراكز اللغات سمعتها على هذا الاعتقاد، فانتشرت فروعها وتعددت مستوياتها وشهاداتها، لتُصبح محطة إلزامية لكل من أراد تطوير ذاته أو تحسين فرصه الوظيفية.
غير أن هذا النموذج بدأ في التراجع بشكل ملحوظ مع بزوغ نجم الثورة الرقمية، ثم تسارع تآكله مع صعود الذكاء الاصطناعي. لم يعد تعلم اللغة يحتاج إلى جدران فصل أو جدول دراسي، بل إلى هاتف ذكي وتطبيق ذكي.
ويبدو أن هذه القناعة لم تعد مقتصرة على روّاد التقنية، بل أصبحت جزءًا من خطاب قادة عالميين في مجال التكنولوجيا والتعليم. فقد أكد بيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت، أن الذكاء الاصطناعي سيحدث ثورة في التعليم، وسيكون متاحًا بشكل مجاني لكل من يملك اتصالًا بالإنترنت، ما يعني أن الجودة التعليمية لم تعد حكرًا على المؤسسات أو المراكز، ومن جانبه، أطلق سلمان خان، مؤسس أكاديمية خان التعليمية، أداة تعليمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي تُدعى "خانميغو"، لتعمل كمدرّس شخصي للطلاب. يرى خان أن هذه التقنية "ستُغيّر وجه التعليم كما نعرفه"، لأنها توفر دعمًا لحظيًا، وتعلّمًا ذاتيًا مخصصًا لكل طالب، بعيدًا عن النمط التلقيني للمراكز التقليدية.
إزاء كل هذا، يصبح من المشروع التساؤل: لماذا لا تزال مراكز اللغات قائمة؟ الجواب ببساطة أن كثيرًا منها بات يعتمد على الشهادة لا على المهارة، وعلى التسويق لا على الكفاءة. لكن السوق تغيّر، وطالب اللغة بات أكثر وعيًا؛ فالشركات لا تسأل عن شهادة مستوى "B2"، بل تختبر قدرتك الفعلية على التحدث والكتابة والتفاعل. وهذه القدرات يُمكن بناؤها من خلال أدوات ذكية لا تُكلّف شيئًا، ولا تضيع وقتًا، ولا تُشعرك بالفشل أو النقص.
لم يعد تعلّم اللغة اليوم بحاجة إلى معلّم تقليدي بقدر ما هو بحاجة إلى فضول، وخطة تعلم رقمية، وتطبيق يتفاعل معك كما لو كان إنسانًا. وهكذا، انتقل مركز الثقل من المؤسسة إلى الفرد، ومن الفصول إلى التطبيقات، ومن الشهادة إلى المهارة، فالذكاء الاصطناعي لم يلغِ مراكز اللغات فحسب، بل كشف أنها لم تكن ضرورة في الأصل، بل مجرد مرحلة عابرة من مراحل التعلم البشري.
الأهم أن مراكز اللغات التي بنت مشروعها على وهمٍ ثقافيّ بأن اللغة سلّمٌ للتمدّن، لم تدرك أن التمدّن الحقيقي يبدأ من القدرة على الوصول الحرّ إلى المعرفة، لا من خلف نوافذ زجاجية تحمل لافتات "مستوى متقدّم". ومع صعود أدوات الذكاء الاصطناعي، لم يتوقف الأمر عند تحجيم دور هذه المراكز، بل تمّ فضح الأساس الذي قامت عليه: ربط اللغة بهوية اجتماعية لا بكفاءة تواصلية.
واليوم، لم يعد التردد على هذه المراكز دليل طموح كما كان، بل قد يُقرأ أحيانًا كعجز عن الانخراط في عالم مفتوح، بات فيه كل جهاز ذكي نافذةً على العالم، وكل مستخدمٍ رقميّ هو معلم نفسه. لقد تغيّر سؤال التعلم من "أين أذهب؟" إلى "ماذا أريد؟"، ومعه تغيّر الجواب: لم تعد مراكز اللغة ضرورة... بل ذكرى من زمنٍ لم يكن الإنترنت قد تولّى التعليم بعد.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب