السياسية - وكالات:


في قريوت، البلدة الهادئة جنوب نابلس، لم يعد الصباح يبدأ بزقزقة العصافير ولا برائحة الزيتون. صار يبدأ بصوت الجرافات، وبغبارٍ يعلو فوق أشجارٍ عاشت قرونًا، قبل أن تُقتلع في لحظات. هنا، حيث كان الزيتون شاهدًا على التاريخ، يمدّ الاستيطان أذرعه كأخطبوطٍ لا يكتفي بالأرض، بل يبتلع الروح والرزق معًا.


على مدى أيام متواصلة، اقتحمت جرافات العدو الإسرائيلي أراضي البلدة، واقتلعت مئات أشجار الزيتون الرومية المعمّرة، تمهيدًا لإقامة جدار أمني استيطاني. جدار لا يقسم الأرض فقط، بل يهدد بابتلاع آلاف الدونمات، ويفصل شمال الضفة الغربية عن وسطها وجنوبها، في واحدة من أخطر حلقات المشروع الاستيطاني المتدرج.


بلا إخطار، وبعيدًا عن أعين أصحاب الأرض، نُفّذ المخطط بسرعة خاطفة. قرار صدر في سبتمبر لبناء جدار يمتد بين مستوطنتي “عيليه” و“شيلو”، تبعه في أكتوبر أمر عسكري بإزالة كل الأشجار في الجهة الغربية من قريوت، بحجة “الأغراض الأمنية”. لكن الواقع على الأرض يقول شيئًا آخر: توسعة استيطانية كبرى، ومساحات تلتهمها المستوطنات واحدة تلو الأخرى.


يقول الناشط وأحد أبناء البلدة، بشار القريوتي، لـ وكالة (سند للأنباء) الفلسطينية، إن ما جرى فاق كل التوقعات. “لم يُبلَّغ أصحاب الأراضي، ولم تُمنح فرصة للاعتراض. بدأ التجريف بعد انتهاء المدة القانونية، وكأنهم تعمّدوا حرماننا حتى من حق الاعتراض”، يوضح بحسرة.
خلال الأيام الأولى فقط، جُرفت نحو 700 دونم، واقتُلعت أكثر من 1500 شجرة زيتون، بعضها يزيد عمره عن 500 عام. لم تتوقف الجرافات عند الأشجار؛ هدمت السلاسل الحجرية، وردمت آبار المياه، ودمّرت شبكات المياه والكهرباء، وامتدت إلى مناطق مصنفة (ب)، في انتهاكٍ صريح لكل القوانين.


لم يلتزم العدو الإسرائيلي حتى بالمخططات التي أعلنها. فبدل مصادرة 80 دونمًا كما ورد في الأوراق، تمدد التجريف لمساحات أكبر بكثير. “احتسبوا مساحة الجدار فقط، لكن الأراضي خلفه لم تُحسب”، يقول القريوتي، مضيفًا أن السياج الاستيطاني وصل إلى عتبات المنازل، مخالفًا حتى القوانين التي وضعها العدو نفسه، والتي تفرض الابتعاد 150 مترًا عن البناء القائم.


وفي مشهدٍ اختصر الألم كلّه، جلست الحاجة خديجة يوسف، المسنّة التي أفنت عمرها بين أشجار الزيتون، تراقب جرافة تقتلع رزقها أمام عينيها. كانت ترثي أشجارها كما يُرثى الأحبة، وتقول بصوتٍ مكسور:
“راح الرزق… يا كشيل الرزق وأصحابه”.


ستون عامًا قضتها خديجة في رعاية أرضها، كانت مصدر رزق لعائلتها، قبل أن تُمحى في ساعات. “حسّيت كأنهم اقتلعوا قلبي من صدري”، تقول. “ما في أغلى من رزق الإنسان وبيته وشجره ووطنه”. ورغم القهر، لم تنكسر كلماتها: “هم سيرحلون، ونحن باقون في أرضنا”.


اليوم، وبعد سيطرة المستوطنين على جنوب قريوت الغني بينابيع المياه، باتت الجهة الغربية المتنفس الأخير لأهالي البلدة. هناك كان الأطفال يلعبون في متنزه أقامه المجلس القروي، وهناك كان الناس يتنزهون هربًا من طوق المستوطنات الثلاث وأربع بؤر استيطانية تحاصرهم.
لكن مع الاستيلاء على هذه المنطقة، أصبحت نحو 90% من أراضي قريوت تحت سيطرة العدو الإسرائيلي. من أصل 22 ألف دونم، لم يتبقَّ سوى 800 إلى 1000 دونم فقط.


“نعيش اليوم داخل طوق استيطاني خانق”، يقول القريوتي. “الاحتلال يغيظه أن يرى شجرة زيتون أو تجمعًا فلسطينيًا بين المستوطنات، فيسعى لابتلاع كل ما تبقى”. لم تعد في قريوت أشجار رومية؛ إما اقتُلعت، أو صارت خلف جدران المستوطنات.


ما يحدث في قريوت ليس معزولًا. إنه جزء من مخطط استيطاني واسع يربط مستوطنات “عيليه” و“شيلو” و“شيفوت راحيل” وصولًا إلى “معاليه أفرايم” في الأغوار، عبر 14 تجمعًا استيطانيًا، بهدف تمزيق الضفة الغربية وفصل شمالها عن وسطها وجنوبها.


وتؤكد هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن العدو الإسرائيلي كثّف، منذ مطلع عام 2025، إصدار أوامر وضع اليد لأغراض عسكرية بشكل غير مسبوق، صودر بموجبها 2549 دونمًا، إلى جانب عشرات الأوامر التي استهدفت الطبقة الشجرية.


في قريوت، كما في كثير من قرى الضفة، تتكرر القصة ذاتها: أرض تُصادر، شجر يُقتل، وإنسان يُدفع إلى الحصار. لكن بين الركام، لا يزال الأهالي يتمسكون بما تبقى، مؤمنين أن الزيتون قد يُقتلع، لكن الجذور أعمق من أن تُمحى.