أحمد يحيى الديلمي

تنفيذي وفعل في الميدان

كما أسلفنا ستظل إشكالية إحجام المواطن عن تقديم شكوى بالموظف المقصر أو المتلاعب أعظم معضلة تواجه قضية الفساد ، لأن إجحام المواطن وعدم تعاونه يعني التستر على المفسدين وإن كان الأمر أحياناً بطيبة وسذاجة أو بخلفية الرحمة ومحاولة المساعدة ، سيظل هذا الأمر حتى يلمس الجميع جدية الإصلاحات وتنتهي الاستثناءات وحالة التمايز والمجاملة لأصحاب الجاه والحظوة ممن تُسهل لهم الإجراءات وتزول العراقيل وتسمح اللوائح وتتوفر الأوراق والمستندات المطلوبة في غمضه عين إذا كانوا من المتنفذين أو من القادرين على الدفع وإجزال العطاء .

الحقيقة أن القوانين والتشريعات واضحة وقد اشتملت على نصوص كفيلة بتنظيم العلاقة بين الموظف والمواطن ، إلا أن هناك إجراءات تنظيمية مكملة تتخذها القيادات الإدارية وهي أن كانت تحمل في ظاهرها الرحمة إلا أن باطنها يوحي بالعذاب ، من ذلك مخططات ورخص البناء التي تجري في أمانة العاصمة والمحافظات بإشراف وزارة الأشغال .

نأخذ المخططات العامة ومنح رخص البناء على سبيل المثال ، من خلال المتابعة  وقراءة بعض الملفات وجدنا حقائق مذهلة رغم أن القوانين واللوائح واضحة وأنه تم مؤخراً إشراك المجالس المحلية لتسهم في حماية المواطن من تعنت الموظف الرسمي إلا أن الحابل اختلط بالنابل وأصبح كلما يتخيله الإنسان حقيقة عندما يتجه إلى أحد المناطق ، في البداية لابد أن يكون لدى المراجع قدرة هائلة على ضبط النفس وقدرة أكبر على الصبر والتحمل وانتظار صدور تكليف مهندس المنطقة المختص للخروج ووضع الكروكي ، وهذا الأخير يطلب الذهاب إلى الهيئة المعنية لشراء المخطط وفي الهيئة يواجه بعراقيل تصل إلى حالة التسويف والمماطلة .

أذكر في هذا الصدد نكته لطيفة حدثت بعد قيام الوحدة ، كان وزير المالية في الدور الخامس وسكرتارية القيد والختم في الدور الأول  فجاء أحد الموظفين وهو من عدن ظل يصعد ويهبط أكثر من مرة وكان مسئول السكرتارية أسمه غنيمة قال الموظف بتلقائية وبساطة “لماذا لا يطلعوا الغنمة إلى عند الوزير ويسكهونا المشاكل” قالها بغضب بعد أن صعد وهبط أكثر من خمس مرات ، وهذا فقط من قبيل المزاح للدلالة على طبيعة تعقيد المعاملات التي تسبب جهد وعناء  للمواطن ، المشكلة أن هذا هو السائد حتى اليوم بالذات في رخص البناء .

من الوهلة الأولى لا يخبرك أحد بما هو المطلوب وغير المطلوب مره واحدة ، بل خطوة خطوة وفي حالات كثيرة يتحول المعني إلى قاضي شرع يُفتي في صحة الثبوت من عدمه ، وإن كان لدى المعامل خبرة سابقة عن الإجراءات فلا يحق له الاعتراض أو حتى السؤال عن أوراق يطلبها الموظف وإن كانت غير ذي جدوى .

المهم إذا فتح الله عليه ووصل مشارف الحصول على الرخصة يطلب منه مبلغ كبير باسم ضمان حتى رفع المخلفات  ، وفي الأخير لا هذا يتأتى ولا هذا يحصل ، فالضمان لا يعود والمخلفات لا تُرفع ، وهنا يكمن الخلل فالعملية وإن كانت في الظاهر تجسد الحرص على النظافة إلا أنها تحولت إلى أكبر بؤرة للابتزاز وشرعنة الفساد من قبل الموظفين المعنيين .

ومن مظاهر الخلل أيضاً شروط الحصول على رخص البناء الأفقي للعمارات الكبيرة ، ومن تلك الشروط وجود مواقف للسيارات واستكمال الأشياء الفنية منها دراسة شاعرية التربة ومدى صلابتها والمضمون جيد إلا أن واقع الحال يثبت العكس تماماً ، فلقد أطلعت على ملف لمستثمر كان قد حصل على رخصة لبناء ستة طوابق وقام الفنيين بدارسة شاعرية التربة والتأكد من سلامتها وأنها تتحمل أكثر من عشرة طوابق ، ورغم أنه يمتلك موقف إلا أن معضلة دراسة شاعرية التربة تحولت إلى ثغرة للمقايضة والمساومة والابتزاز ، إذ طلب منه الموظف المختص مبلغ كبير حتى يمنحه رخصة بناء الطوابق العليا ، بعد أن تعرض لغرامات جسيمة ، إلا أنه لم يسمح له استكمال العشرة طوابق وسمح له بإضافة دورين فقط ، ومن سخرية القدر أن شخصاً على مقربه منه من المحظوظين حصل على ترخيص لبناء عشرة طوابق دون دراسة شاعرية التربة ولا يمتلك موقف وهو ما يكشف بوضوح حالات التلاعب والعبث وعدم المساواة بين المواطنين والتسويف في تطبيق القوانين ، الملفات والشواهد عديدة في هذا الجانب لكني أكتفي بما أسلفت كمؤشرات للدلالة على مواطن الخلل وفتح أفاق المعنيين على مواطن الخطأ ، علماً أن نفس الاختلالات وحالات الابتزاز ومداخل المساومة والتسويف موجودة وأحياناً بشكل أكبر وأشد ضراوه وفتكاً بالموظف في المؤسسات المعنية بتقديم الخدمات الأساسية مثل ( الجوازات ، البطائق ، رخص البلدية ) وكل ما له علاقة بالخدمات العامة .

 

* شكر لرئيس مصلحة الأحوال المدنية

طالما أننا نتبع منهجية النقد الموضوعي البناء الهادف إلى الإصلاح الحقيقي المعزز لحركة البناء وإقالة كافة العثرات وكل مظاهر الفساد التي ضاعفت الآلام والأوجاع وفاقمت هموم المواطن ، كل هذا يتطلب منا انصاف كل من بادر إلى ترجمة المسعى قبل إعلانه وهو الأخ رئيس مصلحة الأحوال المدنية الذي بادر إلى وضع لائحة حدد فيها مقدار الرسوم المطلوبة للحصول على بطاقة شخصية ، ووضع رقم التلفون الذي يمكن للمواطن الاتصال به إذا حاول أي موظف ابتزازه أو التحايل عليه فله جزيل الشكر .

 

* المخططات الجغرافية للبناء – بؤرة للفساد

ظلت عملية التخطيط للمدن الرئيسية وفي المقدمة أمانة العاصمة صنعاء من الأسرار الغامضة أغوارها عميقة يصعب الوصول إليها إلا من هم في مواقع المسئولية أو الراسخون في العلم من مافيا الأراضي ، لأنهم كانوا يُبلغون بقرب نزول مخطط منطقة من المناطق قبل فترة كافية تمكنهم من مساومة ملاك الأرض الأصليين لشراء الأرض بمبالغ زهيدة ، ولم تعدم جهة الاختصاص الحيلة في توسيق الأعذار والمبررات التي تحول دون نزول المخططات ، كان أولها الاستغلال العكسي للقرار الجريء والشجاع الذي أصدره الرئيس الشهيد المرحوم إبراهيم الحمدي وقضى بمنع البناء في المساحات البيضاء للحفاظ على الشكل الحضاري والتاريخي الجاذب للمدن اليمنية ، وعدم السماح لحركة البناء من التمدد في المساحات الزراعية ، علماً أن القرار لم يصدر بشكل عشوائي لكنه ترافق مع خطوة هامة تمثلت في تمويل البنك الدولي لمشروع استراتيجي ، حيث قامت شركة فرنسية بإعادة تخطيط صنعاء على أساس بقاء المزارع المحيطة بالمدينة من كل الاتجاهات ، وإيجاد البدائل الكفيلة باتساع حركة البناء في الجبال المحيطة ، لكن بعد غياب صاحب الفكرة أمرت القيادة بإخفاء النتائج التي توصلت إليها الشركة بحجة الدواعي الأمنية واستحالة التمدد في الجبال ، فعاد الحال إلى ما كان عليه مع دخول عامل جديد تمثل في دخول القيادة والمقربين إلى ميدان السباق على الأراضي في كل الاتجاهات المحيطة بالمدن وتحولوا إلى مصدر للتحكم والتوجيه بأزمنة إنزال المخططات وهكذا تحولت العملية إلى أبشع بؤرة للفساد والسماح للمافيات وأصحاب السطوة المتنفذين من الاستيلاء على أراضي الضعفاء بالقوة وفي المقدمة أراضي الدولة ، الأوقاف ، التي مثلت اعظم بؤرة للفساد ومدخل لضمان الولاءات وشراء الضمائر خاصة في الحديدة وتعز ودخلت عدن والمحافظات الجنوبية والشرقية في مزاد الفساد بعد تحقيق الوحدة المباركة ، وفي صنعاء أيضاً زالت فكرة استحالة التمدد في الجبال حيث وزعت تحت يافطة الجمعيات السكنية لذوي الدخل المحدود .

البناء العشوائي ومدن الليل

على وقع الإجراءات المعقدة واحتكار المخططات مقابل الارتفاع الجنوني لأسعار الأراضي المخططة ، أضطر المواطنين أصحاب الدخل المحدود إلى البحث عن الأراضي الرخيصة والبناء بشكل عشوائي في جنح الظلام حتى نشأت ما يُسمى بمدن الليل بشكل عشوائي يفتقر إلى أبسط الخدمات ، إضافة إلى أنه شوه مظهر المدينة الحضاري .

ولا يزال كما هو عليه والمدن العشوائية تظهر بين ليلة وضحاها ، مساكن تشبه علب الكبريت وجهات الاختصاص لا تحرك ساكناً .. وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله ..