الإمـام زيد في ذاكرة الأُمَّــة.. منارة إصلاح لا ساحة صراع
مبارك حزام العسالي*
في ظل مشهد فكري واجتماعي يموج بالتنوع، تُثار أحيانًا تساؤلات أَو تحفظات حول إحياء ذكرى الإمَـام زيد بن علي -عليهما السلام-، بين من يراها تكريمًا لعالم جليل ومناضل إصلاحي وسيرًا على نهجه، ومن يعتبرها مثار جدل أَو مدعاة للانقسام؛ غير أن الواجب تجاه حاضر الأُمَّــة ومستقبلها يحتم علينا تجاوز ثنائية التأييد والرفض، والدعوة بدلًا عن ذلك إلى فهم أعمق وحوار بنّاء يثري رؤيتنا ويعزز تماسكنا.
شخصية جامعة وقيم مشتركة:
الإمَـام زيد -عليه السلام- ليس مُجَـرّد شخصية تاريخية مذهبية، بل هو رمز إسلامي جامع لقيم عُليا مثل مقاومة الظلم، السعي للإصلاح، التضحية؛ مِن أجلِ الحق، والدعوة إلى العدل والحرية.
يجب أن ندرك أن الإمَـام زيد ليس من أُولئك القادة الذين تُستغل سيرتهم لأغراض سياسية أَو مذهبية؛ لأَنَّه يجسد المشتركات الإسلامية التي تلهم جميع المسلمين، بصرف النظر عن خلفياتهم الفكرية أَو المذهبية؛ إحياء ذكراه ليس بالضرورة تعبيرًا عن انتماء مذهبي حصري، بل عن استلهام لمعانٍ عظيمة في زمن تاهت فيه البوصلة.
عندما نتجاوز القشور، نجد أن الإمَـام زيد، كغيره من أئمة الإسلام الإجلاء، كان يمثل قيمًا نبيلة يمكن للجميع الاتّفاق عليها. فلماذا نركز على ما يفرقنا من تفاصيل، بينما يمكننا أن نستلهم من هذه الشخصيات ما يوحدنا من قيم ومبادئ؟ التركيز على هذه القيم هو جوهر الاحتفاء بالإمَـام زيد، فهو امتداد حي لإرث النبوة ونهج الرسالة التي تدعو إلى التراحم والعدل بين الناس.
هذا الفهم الواسع يمكن أن يحوّل المناسبة من نقطة خلاف إلى جسر تواصل وتذكير بمسؤوليتنا الجماعية تجاه بناء مجتمع أكثر إنصافًا وتكافلًا.
من سيرة الإمَـام زيد.. مشروع جامع لا فئوي:
يكفي أن نتأمل في مواقف الإمَـام زيد -عليه السلام- لنُدرك أنه لم يكن صاحب دعوة مذهبية مغلقة، بل حامل مشروع إصلاحي جامع، يتجاوز العصبيات، ويستند إلى قيم الإسلام الكبرى في العدل والشورى والوحدة. فعندما خرج على طغيان بني أمية، لم يُنادِ بإمامة حصرية، بل رفع راية "الرضا من آل محمد"، داعيًا إلى اختيار الأصلح دون تعيين قسري أَو حصر مذهبي، قائلًا:
"إنما ندعوكم إلى كتاب الله وُسنة نبيه، وإحياء السنّة وإماتة البدعة".
كما قال مخاطبًا الأُمَّــة في بيان خروجه:
"والله ما يدعوني إلى الخروجِ إلا الغضبُ لله، انتُهكت محارمُه، وعُطلت حدودُه، وحُكِمَ بغير الحق...".
هذا الفهم الراقي وتلك الروح الجامعة تؤكّـد أنه لم يكن يسعى إلى تمكين فئة أَو مذهب، بل إلى إصلاح الأُمَّــة جمعاء؛ لذا فَــإنَّ استحضار سيرته اليوم يجب أن يكون فرصة لبناء وعي مشترك، لا مدعاة للفرقة أَو التوظيف الفئوي.
احترام الرموز أَسَاس التماسك:
التاريخ الإسلامي زاخر بالتنوع، وَإذَا ما أُحسن فهم هذا التنوع، فَــإنَّه يُعد مصدر ثراء حضاري لا تهديدًا. من هنا، فَــإنَّ احترام رموز كالإمَـام زيد بن علي -عليهما السلام- هو احترام لتاريخ الأُمَّــة وتنوعها، لا خروج عن الإجماع.
لكل أُمَّـة رموزها التي تشكّل جزءًا من وعيها التاريخي وهويتها الثقافية. والإمَـام زيد، بالنسبة لشريحة واسعة من المسلمين، وخَاصَّة في اليمن، يمثل رمزًا حاسمًا من تاريخها، وتكريم ذكراه هو حفظ لهذا الوعي، لا إثارة للانقسام. النيل من هذه الرموز يُضعف التماسك المجتمعي، ويشكّل اعتداء على الذاكرة والهُوية، لا مُجَـرّد خلاف سياسي أَو فكري.
التحذير من تسليع الرموز:
المفارقة أن بعض المنتقدين يدركون جيِّدًا رمزية الإمَـام زيد ومكانته، لكنهم يتعمدون استهدافَه كوسيلة للإثارة والانقسام، لا لحوار فكري حقيقي. وهذا بحد ذاته يعكس استغلالًا مكشوفًا، لا يعزز أية مصلحة وطنية، بل يفتح أبواب الفتنة ويُهدر الطاقات في معارك جانبية.
أولوية التحديات الكبرى:
في زمن تتعدد فيه الأزمات، من الاقتصادية والسياسية إلى العدوان الخارجي، لا يُعقل الانشغال بصراعات حول رموز محترمة. ما نحتاجه هو التماسك الوطني، وتوجيه الطاقات نحو البناء ومواجهة المخاطر التي تهدّد وجود الأُمَّــة، وعلى رأسها المشروع الصهيوني والأمريكي وأذرعه في المنطقة.
إن استنزاف الجهود في خصومات عابثة حول رموز وحدوية، كان هدفها الأسمى إصلاح الأُمَّــة، هو خيانة ضمنية لهذه الرسالة، وإهدار لما نحن بأمسّ الحاجة إليه: الوحدة والوعي والتعاون.
نحو وعي جامع لا إقصائي:
علينا أن نفرق بين النقد الهادف والنقد المؤدلج؛ بين من يُنقّب في السيرة ليبني، ومن يستغلها ليهدم. حماية الرموز ليست قيدًا على الفكر، بل حماية للذاكرة من التشويه، ودعوة لقراءة سيرتها في إطارها القيمي، لا توظيفها كذخيرة في الصراع.
فلنجعل من ذكرى الإمَـام زيد -عليه السلام- محطة للتأمل في معاني التضحية والعدل والوحدة، لا مناسبة للفرقة والتشكيك؛ ولنجعل من تاريخنا ميدانًا للحوار، لا ساحة للخصومة؛ فبقدر ما نحسن قراءة رموزنا، بقدر ما نرتقي في مشروعنا الديني والوطني والإنساني.
*المقال يعبر عن رأي الكاتب
*المسيرة نت