السياسية || محمد محسن الجوهري*

منذ بداية الأزمة السورية، سعت القوى الكبرى، وعلى رأسها الكيان الصهيوني إلى إعادة تشكيل خارطة الصراع بما يخدم مشاريع التفتيت والتناحر الداخلي، وليس من باب الصدفة أن تتحوّل سورية إلى ساحة مفتوحة لصراعات مذهبية وقومية ومناطقية. وكانت العشائر، بوصفها جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي السوري، أحد الأوراق التي عملت تلك القوى على استغلالها، خصوصاً في المناطق الشرقية والبادية، حيث التداخل بين الانتماء العشائري والاصطفاف السياسي أو الطائفي بات أداة لتفجير النزاعات الداخلية.

في هذا السياق، تبدو فزعة العشائر إلى السويداء مؤخراً مثيرة للريبة، ليس لأنها جاءت في توقيت مشبوه فحسب، بل لأنها جاءت في انسجام تام مع المزاج الإسرائيلي الساعي إلى تحويل أي مواجهة داخلية إلى فرصة لتأجيج الأحقاد الطائفية. فلو كانت "إسرائيل" ترى في هذه الفزعة خطراً على أمنها، لما ترددت في قصف تحركات العشائر كما قصفت من قبل مواقع الجيش السوري في قلب المدينة نفسها، بل إن سماحها الضمني لحشود مسلحة بالتقدم باتجاه منطقة ذات تركيبة درزية صريحة، يكشف نية مبيّتة لتحريك الصراع الداخلي وفق خطوط طائفية مرسومة بدقة.

من المفارقات التي تستدعي التوقف، أن هذه الفزعات التي تقدم نفسها حامية للشرف والعرض والهوية، لم تحرك ساكناً تجاه الاحتلال الإسرائيلي للجولان، ولا تجاه التمدد الصهيوني في الجنوب، ولا تجاه الاعتداءات اليومية التي تطال العاصمة دمشق ومحيطها. لم تسجل العشائر يوماً موقفاً علنياً موحداً ضد الكيان الصهيوني، ولم تنظم فزعة واحدة لإغاثة غزة، أو لمواجهة القوات الصهيونية التي تحتل الأرض السورية منذ عقود. وهذا الصمت، أو لنقل هذا العجز الانتقائي، يطرح تساؤلات صعبة حول حقيقة من يحرّك هذه الفزعات، ومن يرسم لها أهدافها، ويحدد لها من هو "العدو".

في المقابل، فإن الشعب السوري الحقيقي، والذي أنهكته الحرب والمؤامرات، لا يزال يحتفظ في ذاكرته التاريخية بجذور الصراع الحقيقي، ويعي أن العدو المركزي للأمة لم يكن في يوم من الأيام ابن طائفة أو عشيرة أخرى، بل كان الكيان الصهيوني الذي اغتصب الأرض وهجّر الملايين واعتدى على كل مقدس. ولذلك فإن أي فزعة لا تتجه بوصلتها إلى إلى الجولان، أو إلى القدس، لا يمكن تصنيفها إلا كفزعة مشبوهة، ولو رفعت أسمى الشعارات.

إن ما يجري اليوم في سورية من تحريك للعشائر ضمن مواجهات داخلية، لا يمكن فصله عن المشروع الصهيوني الطويل الأمد لتفتيت المجتمعات العربية عبر صراعات الهويات والولاءات. إن الفزعة العشائرية إن لم تكن ضد العدو الخارجي، فهي فزعة لصالحه وإنّ أي سلاح لا يوجَّه إلى صدور الصهاينة، سينتهي موجَّهًا إلى صدور الأبرياء من أبناء الوطن.

على العشائر السورية، وهي جزء من الكرامة الوطنية، أن تُعيد تعريف موقعها في الصراع، لا باعتبارها أداة لحسم الخلافات الطائفية، بل كقوة اجتماعية قادرة على كسر الطوق الصهيوني المحيط بسورية من الجنوب. وعليها أن تسائل نفسها: ما قيمة الشجاعة العشائرية إن لم تُترجم إلى موقف في وجه العدو الذي احتل الأرض ودنّس المقدسات؟ وما نفع الرجولة إن لم تكن سبيلاً لتحرير ما تبقى من الجولان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشام وفلسطين؟

العدو الحقيقي لا يختبئ خلف لهجة أو زيّ أو مذهب، بل خلف طائراته التي تقصف دمشق، وجنوده الذين يرسخون الاحتلال في الجولان وحتى دمشق، وكيانه الذي يصدر الخراب إلى المنطقة. وما لم تكن العشائر السورية على وعي بهذه الحقيقة، فستظل أدوات – وإن بغير قصد – في يد من يخطط لتدمير البلاد وتحويلها إلى خرائط متناحرة تحت رايات باطلة.

وبهذا المعيار، يمكن فرز من يمثل الشعب السوري حقًا ومن لا يمثله. فالعشائر التي تتجه فزعتها نحو فلسطين، نحو تحرير الأرض، نحو طرد المحتل، هي عشائر تمثل الكرامة والحق والوعي القومي. أما من يستنفر بندقيته نحو مدن سورية أخرى، تحت ذرائع مذهبية أو مناطقية، فهو مجرد وقود في مشروع صهيوني أشمل، يتقاطع فيه الداخل بالخارج، والخديعة بالعقيدة.

الرهان اليوم ليس على البنادق وحسب، بل على الوعي. فمن امتلك الوعي عرف من يقاتل، وعرف أين يقف.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب