بقلم : ليسا جاردنر

يقول الله تعالى في سورة التوبة الآية رقم41
“انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”

إنّ كلمة الجهاد في اللغة العربية تتأصل جذورها في لفظة الجُهد بمعنى ما نبذله من نشاط وغير نشاط أي من طاقة ماديّة جسديّة أو معنويّة كالجهاد باليد وبالمال وما يتبع ذلك من مشقة وتضحية من أجل بلوغ هدف سام وهو إعلاء كلمة الله وإعلاء كلمة الحقّ… فالآية إذن تتضمن معنى دعوة الله تعالى المؤمنين أن اخرجوا للجهاد في سبيل الله شبابًا وشيوخًا في العُسر واليُسر، على أيّ حال كنتم، وأنفقوا أموالكم في سبيل الله، وقاتلوا بأيديكم لإعلاء كلمة الله، ذلك الخروج والبذل خير لكم في حالكم ومآلكم فافعلوا ذلك وانفروا واستجيبوا لله ورسوله. يُحيلنا هذا التوضيح إذن إلى أنّ الجهاد هو نشاط وجُهد أرقى وأنبل من المكاسب المادية العرضيّة والفرديّة والزائلة. إن الجهاد بمعناه الشامل يتضمن أولا وبالذات إعلاء كلمة الحق المطلق… الحق بكلّ معانيه وعمقها، الحق في الحياة، والحق في العيش الكريم لكل أفراد المجتمع وهذا ما يحيلنا إلى اعتبار الجهاد في مفهومه الواسع مرتبط بدلالات العقيدة والسلوك وأنماط الحياة ويحيلنا أيضا إلى القيمة الأخلاقية الإيتيقيّة على اعتبار أن الجهاد قد يُحيل إلى معنى مجاهدة النّفس وأهوائها ومغالبة السيّئات والشرور ونشر القيم الحميدة وغرس الأخلاق الفاضلة، و إنشاء دولة عادلة قادرة على مكافحة الظلم و السّهر على حماية حقوق سكانها والدفاع عنها ونشر العدالة في جميع أرجاء البلاد وتوزيعها بالتساوي على جميع العباد، ولا يخفى على أحد أن هذا العمل وهذا النمط الفكري وهذا السلوك الحضاري هو في عمقه ما يمكن نعته بالجهاد لما يستحقّه هذا العمل وهذا النّشاط من جهد يصعب على الإنسان بمفرده أن يقوم به لذلك ارتبط مفهوم الجهاد في الإسلام بمقولة “النحن” أي الجماعة أو المجموعة أو المجتمع… إن الجهاد هو في عُمقه الدّيني والمدني على حدّ سوى يتمحور في مغالبة الأنانيّة الضيقة ومصارعة المصالح الفرديّة المدمّرة للآخر لكي ينتصب كترسانة صلبة لإرساء مبدأ “أن يحب المرء لأخيه ما يحبّه لنفسه”.

– فهل ما زال لهذا المعنى الغيريّ النبيل للجهاد من أثر في أيامنا هذه؟

قد لا نجانب الصواب حين نشير إلى ما تعرض له مفهوم الجهاد من أشكال تأويليّة تعود إلى الوضع الفكري والإيديولوجي والديني…إلخ. لهذا المجاهد تبعا لتواجده الجغرافي الأرضي وانتمائه الحضاري والديني والعقائدي ونمط عيشه وغيرها من الشروط الاقتصادية والتَّموقع السياسي التي تشكّل في مجموعها تصورات أو نماط فكريّة أو مشاريع سياسيّة أيديولوجيّة بها يتلون المفهوم ويتنوع…لذلك لا نستغرب حين نلاحظ ما مسّ مفهوم الجهاد وشروطه وعوامله من تغيرات كثيرة عبر تاريخ البشريّة وخاصّة في المجتمعات والحضارات الإسلامية لذلك نجده قد تطور في العالم الإسلامي ويمكن أن نقول في هذا السياق أنّه قد استُعمل في كثير من الحلقات كوسيلة لا كغاية في حدّ ذاته فارتبط الجهاد بنوايا خارجة عن محوره وغاياته النبيلة، وفي هذا السياق نجده ارتبط لا بالمُعتقد بل بالنتيجة وعبّر عند بعض الفئات والقناعات بمدى درجة السيطرة والتحكم في الآخر وكسب ما يمكن كسبه من استضعافه…. وتعمق أكثر في زماننا هذا المفهوم اللا غيري الوسائلي والأداتي حين طُعمَ بسموم الإيديولوجيات السياسية وانتعش باستلاء الحكّام من النُّخب السياسيّة الغنيّة والمتواطأة مع الشيطان على ثروات الأراضي وخيراتها وتعبئة أفكار الشباب وحشوها بالثقافات الغريبة والحضارات المسيطرة على الشعوب المستضعفة وتفقيرهم ذهنيّا وجسديّا واستغلال اسم الدين أو بالأحرى التصورات الدينية الرجعيّة والظلامية وتجنيدهم وجرّهم لاستعمال أبشع عمليات القتل … قتل إخوانهم من المسلمين باسم الدين وباسم الجهاد في سبيل الله والله كما الدين الحنيف في حلٍّ منهم ومن مشاريعهم . ولعلّ خير دليل على هذا الطغيان الأيديولوجي السياسي اللاّ ديني وإن كان يسلك ويتصرف ويحارب ويحكم باسم “الدين” وتحت مظلته ما يقع اليوم في دول الخليج العربي وبعض الدول الإسلامية في الشرق والمغرب العربي من زجٍّ بهؤلاء الشباب ودفعهم إلى المشاركة في حروب ليس لهم فيها لا ضل و لا شجر، هم في الواقع يخوضون حروب الايدلوجيا السياسية الدامية عُنوة ويستعملون في إنجاح مشروعهم كل الوسائل المتاحة وغير المتاحة مغلّفة بغلاف عقائدي زائف حتى يتم تأصيل و بث هذه الايدلوجيات السياسيّة داخل أوساط مختلفة في الأراضي العربية المسلمة دينا وعقيدة وذلك لضمان بقاء الحاكم على كرسي الحكم وحوزته مع شركائه الأجانب المُسْتقوين بأسلحتهم وأدواتهم اللوجستية ومشاريعهم الاقتصادية على الثروات العظمى…ولعلّ هذا ما يتجلى في حكم الاخوان المستفز تحت الهيمنة السياسية والدينية المتزمت…من هنا نفهم كيف تمكّن هؤلاء تجنيد الشباب من بقاع شبه الجزيرة العربية و ارسالهم إلى أفغانستان، و البوسنة، و اليوم ليبيا، وسوريا ، والعراق ، واليمن.

قد استطاعت هذه العصابات تجنيد الشباب تحت غلاف الدين وباسم الجهاد في سبيل الله…! تعالى الله جلّ جلاله على مثل هذا الجهاد المغلوط والزائف…!هذا المفهوم للجهاد الذي صنعه الإنسان المتطرف في فكره والإجرامي في سلوك ضد أخيه الإنسان “المسلم” فروجوه بوسائل الخبث والمال الكثير المُمَول من البلدان المعادية لأبسط القيم الإنسانيّة بتكثيف المحاضرات “الدينيّة” المؤثرة على نفسيّة فقراء الفكر والبطن مدعمة بنوعيّة من الاناشيد الحماسيّة والعدوانيّة في آن…مع تطعيم هؤلاء الشباب الجنود برواتب زهيده في مقابل وعودهم بتمتعهم في الاخرة بفراديس الجنان وبالحوريّات من النساء لأنهم “ليسوا ميليشيات كما ينعتهم”الكفار” بل هم جنود الله المختارون، ليقاتلوا مع “أسامة بن لادن” و”أيمن الظواهري” وغيرهما .

لقد استمال “بن لادن” بدعم من أموال السعودية عواطف الشباب وشنّج غضبهم ضدّ السياسات الغربية وسياسة أمريكا خاصة وتواطؤها العربي على هياكل الاستعمار وما تبعه من تدخل الغرب وأمريكا في الشؤن الداخلية للمسلمين… وذالك تم عن طريق تحالف بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية للتخلص من العدو السوفيتي وتقسيم الوطن العربي مثله مثل التحالف السعودي البريطاني للتخلص من الحكم العثماني، فقامت السعودية بضخ الأموال و زج الشباب الى القتال تحت عنوان الجهاد في سبيل الله، من أفغانستان إلى ليبيا إلى سوريا إلى العراق حتى وصلوا إلى أرض اليمن!!

وها نحن اليوم بالأدلة الساطعة في خضمّ هذه الحرب المشؤومة ضدّ الشعب التي فرضت على أهل اليمن التي قاربت الست السنوات… وما خلّفته من آثارها وخيمة و ضارة جدّا بالشعب اليمني وطعنت أرضة و عرضة.

ويجب أن لا ننسى أن التدخل السعودي شجَّع النخبة السياسية ألسابقة و ألحالية على تهريب أموال و ثروات و آثار اليمن الحبيب إلى قصور الخليج و بنوك سويسرا… وفي ورقه بحثية من Chatham Houseأثبت الكاتب بأنه تم تهريب أموال اليمن وقد نقول تمّ ذلك تحت قبول ومباركة السعودية بحيث و في عهد الرئيس السابق صالح رصدت منذ سنه 1990 و حتى 2008 و قد صنفت اليمن خامس أكبر مصدر لتدفقات رأس المال الغير مشروع في أقل البلدان نموا و أكثره فقرا في المنطقة، فقد نُهبت من اليمن أكثر من 12 مليار دولار نقديا. هذا وقد أعلن وزير النفط ألسابق بأن هادي قام بنهب أكثر من 700 مليون دولار فقط من النفط في منطقة المسيلة في حضرموت جنوب اليمن، ناهيكم عن نهب أموال حزينة الدولة ورواتب الموظفين، كلها تصب في جيوب نخبة المسؤولين الحاكمين قديمًا وحديثًا تحت اسم الشرعية ليصبحوا “مافيا” لغسيل الأموال اليمنية بكل حرفية وجرم، بينما يتراجع الإنسان اليمني البسيط و أصبح عرضة للمجاعة و يتعرض للجوع و القهريوميا، أمام قمع الحرب والنخبة الحاكمة خارج البلاد التي قامت بنهب ثروات وخيرات اليمن بلا رحمة أو شفقة.وعلينا أن لا ننسى أن إجمالي ثروة الرئيس الراحل صالح تقدر 60مليار دولار …استُثمرت كلها خارج اليمن و هناك ودائع بنكية باسم أولاده و أقربائه… وما خفي كان أعظم…!

أمام كل هذه الفوضى في الأوضاع والمفاهيم، نقف في الختام من جديد إن سمحتم، أمام مفهوم الجهاد بمعناه المجرد من كل التجاذبات الدينيّة والسياسيّة: إنّه جهاد من أجل الحق ضد الباطل، جهاد النفس ضد كل ما من شأنه أن يحيد بها عن محبة الإنسان وإرادة الخير له … هو الجهاد من أجل إرساء دعائم العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات للإنسان مها كان جنسه ونوعه واتجاهه ودينه وانتماءه… الجهاد الحقيقي في عمقه الديني والإنساني يتجسّد في مقاومة الظلم والجور ورفض كل أشكال التمييز بين العباد ويظهر أيضا واقعيا في قبول الآخر والتعايش السلمي معه مع السعي إلى المحافظة بين الناس على “الميزان” الذي يظهر في رموز العدالة والمساواة وتوزيع الخيرات بين الشعوب والبشر على قاعدة و مبدأ “لكل حسب جهده ولكل حسب حاجاته”. الجهاد الحقيقي يتجسّد حقيقة وفعلا في رفض الحرب والدعوة إلى السّلم والسّلام بين الشعوب …ذاك ما دعا إليه الله جلّ جلاله وذاك ما نص عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وذاك ما يدعو إليه الشعب اليمني وكل الشعوب الحرّة في العالم.