أوروبا تغرق بالظلام ..!
كيف دفعت الحرب الأوكرانية الروسية القارة العجوز إلى العودة لعصور ما قبل الكهرباء..؟
برج إيفل يغرق في الظلام ليلاً.. عاصمة النور تعيش أجواء ما قبل الكهرباء.
تحذيرات من شتاء قارس البرودة ينتظر أوروبا، بعد صيف حارق وجفاف خانق جعل أغلب مناطق القارة الخضراء أشبه بصحراء جرداء.
من وزيرة توصي بالاستحمام الجماعي لتوفير الطاقة، إلى حكومات تفرض غرامات على المحال التي تترك بابها مفتوحاً والمكيّف يعمل، وإجراءات لم يكن أحد يتخيل لجوء دولة أوروبية إليها، والسبب أزمة الطاقة غير المسبوقة.
يقولون: على نفسها جنت أوروبا، وعلى الأرجح هم محقون، فالقارة العجوز تسدد الآن فاتورة قرارات خطأ وصراعات لم يكن لها أن تندلع من الأساس.
الرئيس إيمانويل ماكرون حذر الفرنسيين من “التحول الكبير” مع “نهاية الوفرة”، والتحذير أو التنبيه يتعلق أساساً بالكهرباء.
وفي بريطانيا، حيث تخيم أجواء الحزن لوفاة الملكة إليزابيث، تقول التقارير إن الاقتصاد دخل مرحلة ركود بالفعل، والسبب أزمة الطاقة وتراجع الطلب على الكهرباء بسبب الأسعار الخانقة.
الموقف العصيب ليس مقتصراً على باريس أو لندن، بل يخيم شبح الظلام والبرد القارس على القارة العجوز، مع بداية الخريف، والقادم يبدو أكثر قسوة مع قدوم الشتاء الأكثر رعباً في تاريخ أوروبا منذ أنارت الكهرباء شوارعها قبل أكثر من قرن ونصف.
السياسية:
وقبل الدخول إلى تفاصيل معاناة الأوروبيين من ارتفاع أسعار الطاقة لمستويات غير مسبوقة وشح المتاح من الكهرباء، من المهم أن نبدأ القصة من بدايتها، فذلك “التحول الكبير”، كما وصفه الرئيس الفرنسي، لم يبدأ منذ أواخر فبراير/شباط الماضي، حين أطلقت روسيا ترسانتها العسكرية على جارتها الأوكرانية، وإن كانت تلك الحرب قد فاقمت الأزمة دون شك.
التغير المناخي هو السبب الرئيسي وراء موجات الطقس المتطرف التي تضرب العالم بمنتهى العنف منذ سنوات، وزادت وتيرتها بشكل لافت منذ العام الماضي، الذي وصفه كثير من قادة العالم، ومنهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بأنه “عام المناخ”.
والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة كارثية بكل المقاييس على جميع مظاهر الحياة البشرية على الكوكب.
وإذا كانت الأمطار والسيول والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة وانخفاضها والعواصف وحرائق الغابات تمثل جميعاً ظواهر مناخية ليست دخيلة علينا كبشر، فإن تكرار حوادث الطقس المتطرف بفواصل زمنية تقل شيئاً فشيئاً هو أخطر سمات التغير المناخي والاحتباس الحراري، بحسب علماء المناخ.
وفيما يتعلق بالقارة العجوز على وجه الخصوص، كانت ألمانيا قد شهدت في صيف العام الماضي فيضانات قياسية نتجت عنها سيول متدفقة جرفت في طريقها المنازل والمتاجر والشوارع في المدن والقرى الخلَّابة على طول نهر “أهر” وغيره من الأنهار، وخلفت أضراراً بشرية ومادية ضخمة.
كانت تلك الفيضانات قد نتجت عن عاصفةٍ تباطأت إلى أن زحفت فوق أجزاءٍ من أوروبا، وألقت أمطاراً غزيرة وصل ارتفاعها عن الأرض إلى 6 بوصات على المنطقة القريبة من كولونيا وبون. وكانت هناك فيضاناتٌ أيضاً في بلجيكا وهولندا وسويسرا، لكن أسوأ الفيضانات كانت في ألمانيا.
أما هذا الصيف فقد شهدت أوروبا ارتفاعات في درجات الحرارة لم تشهدها القارة منذ أكثر من 500 عام، أدت إلى موجة جفاف مرعبة، إذ ضربت 4 موجات من الحر القائظ ربوع القارة العجوز، ليقضي الأوروبيون صيفاً خانقاً لم يعتادوا عليه بالمرة، لكن الأمور غير المعتادة هناك على وشك أن تستمر، مع قدوم الخريف والشتاء، فالحر القائظ سيتحول إلى برد قارس، والظلام قد يصبح سيد الموقف.
وتتحمل أوروبا جانباً كبيراً من المسؤولية فيما يتعلق بالتغير المناخي، حيث بدأت منها الثورة الصناعية قبل أكثر من قرنين، وتلك الثورة هي السبب الرئيسي وراء تسريع عملية ارتفاع درجة حرارة الكوكب وظاهرة الاحترار أو الاحتباس الحراري، بحسب خبراء المناخ.
أما السبب الآخر، وهو غير منفصل بالأساس عن السبب الرئيسي، فهو قرار أغلب دول القارة العودة لاستخدام الفحم في محطات توليد الكهرباء، بعد أن ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بصورة غير مسبوقة، وفي ظل سعي دول الاتحاد الأوروبي للتخلص من “إدمان الغاز الروسي”، على خلفية الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة” بينما يصفه الغرب بأنه “غزو وعدوان غير مبرر”.
وبغض النظر عن موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة الجيوسياسية بين روسيا والولايات المتحدة، بات واضحاً الآن أن دول القارة العجوز ومواطنيها يتحملون الجزء الأكبر من تداعيات الحرب، والتي كشفت مدى اعتمادية القارة على مصادر الطاقة من خارجها، وبصفة أساسية من روسيا.
*أزمة الطاقة.. تقشف وتخفيف أحمال والقادم يبدو أسوأ
بعد أن وجدت نفسها في مواجهة أسوأ مخاوفها بالفعل، تكثف الحكومات الأوروبية جهودها من أجل إيجاد بدائل عاجلة للغاز الروسي، جنباً إلى جنب مع وسائل لدعم وحماية الأسر والشركات التي ترزح تحت تأثير الارتفاعات القياسية لأسعار الطاقة، حيث تواجه أوروبا ارتفاعاً حاداً في فواتير الكهرباء مدفوعاً بالارتفاع الهائل في أسعار الغاز.
وبدأت الأزمة الأوروبية مع الطاقة مع قرارات روسيا تخفيض كمية الغاز التي ترسلها إلى أوروبا، لترتفع الأسعار وسط مخاوف من أن موسكو ستزيد من تخفيض الإمدادات وربما تقطعها تماماً مع دخول فصلي الخريف والشتاء، وهو ما يهدد القارة العجوز بالبرد والظلام معاً.
كانت أسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي قد ارتفعت بنسبة 13% بين عشية وضحاها لتصل إلى ذروة قياسية، بعد أن تضاعفت في شهر واحد فقط لتكون أعلى 14 مرة من متوسط الأسعار خلال العقد الماضي. ووفق دراسة أجرتها جامعة يورك فإن 58% من البريطانيين يُتوقع أن يعانوا من فقر في الوقود العام المقبل.
وفي فرنسا، عقد الرئيس ماكرون خلال سبتمبر/أيلول جلسة لمجلس الدفاع الوطني لتقييم إمدادات الغاز والكهرباء في البلاد وبحث توقعات نقص الغاز المحتمل خلال فصل الشتاء المقبل. وأوضح الإليزيه أن هدف الاجتماع “حصر حالة إمداداتنا من الغاز والكهرباء للاستعداد لجميع السيناريوهات في الخريف والشتاء”، والنظر في “تضامن الطاقة الأوروبي”.
كان ماكرون، يوم 24 أغسطس/آب، قد حذر الفرنسيين من “التحول الكبير” الذي سيميز بداية العام الدراسي مع “نهاية الوفرة”، ثم أجرى اجتماعاً غير مسبوق، منذ تولى الرئاسة عام 2017، لمجلس الدفاع الوطني بهدف إجراء جرد لإمدادات الغاز والكهرباء ودراسة كافة السيناريوهات لتفادي أي نقص محتمل.
وفي مؤشر واضح على مدى عمق أزمة الطاقة وضبابية ما هو قادم، أعلنت رئيسة بلدية باريس، الثلاثاء 13 سبتمبر/أيلول، أن العاصمة الفرنسية تعتزم إطفاء أضواء برج إيفل قبل ساعة من المعتاد، وستخفض درجة حرارة المياه في المسابح البلدية، وستقلص تدفئة المباني العامة لتوفير الطاقة هذا الشتاء.
الإجراءات تطمح إلى الامتثال لهدف ماكرون بشأن خفض استهلاك الشركات والمنازل والسلطات البلدية من الكهرباء بنسبة 10% في ظل تقليص روسيا لإمدادات الغاز وارتفاع أسعار الطاقة، في الوقت الذي تبحث الدول في أنحاء أوروبا عن طرق لخفض استهلاك الطاقة وملء مستودعات الغاز تحسباً لانقطاع كلي محتمل من جانب موسكو.
وعلى الرغم من أن اعتماد فرنسا على الغاز الروسي أقل كثيراً من بعض جيرانها، إلا أن العدد القياسي للمفاعلات النووية التي خرجت من الخدمة أجبر البلاد على استيراد الطاقة رغم أنها عادة ما تقوم بالتصدير، ما فاقم الضغط على أسواق الطاقة.
برج إيفل، أهم وأشهر معالم باريس، يظل مضاءً حالياً حتى الساعة الواحدة صباحاً بالتوقيت المحلي بنظام إضاءة يضفي عليه بريقاً ذهبياً، ويعني إطفاء أنوار البرج عند الساعة 11:45 مساءً بالتوقيت المحلي خفض استهلاك الطاقة بنسبة 4%.
وأوضحت عمدة باريس أنه اعتباراً من 23 سبتمبر/أيلول، سيتم إطفاء الإضاءة في المباني العامة في العاصمة عند الساعة العاشرة مساءً، بينما ستنخفض درجة حرارة المياه في المسابح إلى 25 درجة مئوية من 26 درجة مئوية. وسيتم خفض التدفئة في المباني العامة إلى 18 درجة مئوية.
* “استحمام جماعي “لترشيد استهلاك الطاقة!
إذا كانت الأزمة في فرنسا وإيطاليا أيضاً تتمثل في ارتفاع أسعار الكهرباء بصورة غير مسبوقة، ومخاطر قلة المتاح منها عن المطلوب للمنازل والمصانع، فإن أزمة الطاقة تلك تتضاعف في دول مثل ألمانيا وسويسرا وجيرانها نحو الشمال، والسبب يرجع إلى زيادة الاعتماد على الغاز الروسي بصورة مضاعفة.
وفي هذه الأجواء لا صوت يعلو على صوت أزمة الطاقة، فإعلانات ترشيد استهلاك الطاقة أصبحت تمثل ركناً رئيسياً من أركان عمل الحكومات الأوروبية، ولا يخلو الأمر من غرابة بعض “النصائح” الموجهة من المسؤولين للمواطنين -عبر تلك الإعلانات- في بعض الأحيان.
فخلال هذا الصيف، فرضت بعض البلديات غرامات على المحال التجارية التي تترك أبوابها مفتوحة؛ لأن ذلك يعني استهلاكاً أعلى للطاقة المستخدمة في تبريد الهواء في تلك المحال.
“خلال موجة الحر وأزمة الطاقة، أشعر بالعار عندما أرى عدم المسؤولية من جانب المتاجر المكيفة التي تترك الباب مفتوحاً!”، كان هذا نص تغريدة نشرها دان لير، نائب عمدة باريس يوم 17 يوليو/تموز 2022، على حسابه في تويتر. وبعد أيام قليلة، وتحديداً في 25 يوليو/تموز، بدأ عدد من المدن والبلديات الفرنسية في فرض غرامات على تلك المحال والمتاجر التي تترك الباب مفتوحاً. الغرامة 150 يورو أول مرة، وتتم مضاعفتها تباعاً في حال التكرار.
أما في سويسرا، فقد أثارت وزيرة الطاقة سيمونيتا سوماروغا جدلاً كبيراً بعد أن نشرت نصائحها الخاصة للمواطنين بكيفية ترشيد استهلاك الطاقة بسبب الأزمة. تلك التوصيات ضمت تقليل درجات حرارة السخانات وإغلاق جميع الأجهزة الكهربائية بشكل كامل مادامت لا يتم استعمالها، وإضاءة مصباح واحد فقط في المنزل ليلاً ورفع درجة حرارة الثلاجة، والاستحمام معاً! نعم، بدلاً من أن يستحم كل شخص بمفرده، نصحت الوزيرة بأن يستحم كل شخصين معاً لتوفير الطاقة.
اللافت أنه عندما انتقد البعض توصيات الوزيرة، خرجت في مقابلات صحفية ولقاءات تليفزيونية للدفاع عن توصية الاستحمام الجماعي، وأكدت أن تلك التوصيات تمت مناقشتها وإقرارها في اجتماعات الحكومة.
وبعيداً عن “غرابة” قصة الاستحمام الجماعي، خصوصاً أن تكون توصية حكومية، فإنها تعد مؤشراً واضحاً على مدى عمق أزمة الطاقة في القارة الأوروبية، إضافة إلى ما باتت تلك الحكومات مستعدة للقيام به حتى تتفادى تفاقم التبعات الاجتماعية والسياسية الخطيرة، التي قد تنتج عن تلك الأزمة في نهاية المطاف.
ففاتورة الطاقة في العاصمة الفرنسية باريس ستصل إلى 90 مليون يورو هذا العام، بزيادة 35 مليون يورو عن المعتاد، على الرغم من وجود عقود طويلة الأجل للكهرباء والغاز تحمي السلطات من الأسوأ فيما يتعلق بزيادات التكلفة، وهذا الوضع ربما يكون الأفضل بين باقي الدول الأوروبية.
وفي لندن، أظهرت بيانات رسمية، نشرت الإثنين 12 سبتمبر/أيلول، أن الاقتصاد البريطاني نما بأقل من المتوقع في يوليو/تموز، ما زاد من خطر أن تكون البلاد قد دخلت بالفعل في حالة ركود مع تضرر الطلب على الكهرباء بفعل الارتفاع الحاد في رسوم الطاقة، وما يعنيه ذلك لباقي القطاعات الاقتصادية الأخرى. وأظهرت البيانات أنه مع بلوغ التضخم أعلى مستوى له في 40 عاماً متخطياً 10%، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2% من يونيو/حزيران بأقل مما كان متوقعا عند 0.4% في المتوسط. وكان الناتج المحلي الإجمالي ثابتاً خلال الأشهر الثلاثة حتى يوليو/تموز مقارنة بالأشهر الثلاثة التي سبقتها.
وتوقع بنك إنجلترا في أغسطس/آب أن يصاب خامس أكبر اقتصاد في العالم بركود من نهاية عام 2022 حتى أوائل عام 2024، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تضرر مستويات المعيشة من أسعار الطاقة التي ارتفعت بسبب الحرب في أوكرانيا.
وقال مكتب الإحصاءات الوطنية إن الأدلة المتداولة تشير إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة يغير سلوك المستهلك، وإن الطلب على الطاقة قد انخفض. إذ قفزت أسعار الكهرباء بنسبة 54% خلال 12 شهراً حتى يوليو/تموز، ضمن زيادة أسعار الطاقة التي أدت إلى تولي رئيس وزراء جديد المنصب.
الحكومة السويسرية، من جانبها، كشفت عن خطة جديدة لزيادة إنتاج الكهرباء المولدة من مصادر الطاقة المتجددة، للحد من الانبعاثات الكربونية، فضلًا عن خفض استهلاك الكهرباء.
وقدّمت الحكومة السويسرية للبرلمان خطة تستهدف خفض استهلاك الفرد من الكهرباء بنسبة 43% في 2035، و53% في 2050، مقارنة باستهلاك عام 2000.
وتُعدّ الخطة المقترحة بمثابة قفزة في طموحات الحكومة، إذ إنه وفقاً للخطة الحالية فمن المفترض أن تخفّض الدولة الأوروبية استهلاك الكهرباء بنسبة 13% في 2035، و5% في 2050.
جاء عرض الحكومة بعد رفض الناخبين السويسريين مشروع قانون الحد من انبعاثات الكربون في استفتاء عام، وشمل القانون المرفوض عدة بنود يؤدي القبول بها إلى ارتفاع التكلفة على المواطنين وأصحاب الأعمال.
فعلى سبيل المثال فرض ضريبة من 30 إلى 120 فرنكاً سويسرياً (33 إلى 132 دولاراً أمريكياً) على تذاكر الطيران للرحلات المغادرة من سويسرا. وكانت خطة الحكومة السويسرية تتضمّن زيادة الرسوم الإضافية التي يمكن أن يفرضها مستوردو الوقود على البنزين والديزل من 5 إلى 12 سنتاً للتر، وضريبة ثاني أكسيد الكربون على الديزل من 120 فرنكاً (132 دولاراً أمريكياً) إلى 210 فرنكات (231 دولاراً أمريكياً) للطن.
وعلاوة على ذلك يُفرض على مستوردي السيارات بيع سيارات ذات كفاءة عالية بيئياً. وكان الناخبون قد رفضوا أيضاً مبادرتين شعبيتين لمكافحة مبيدات الآفات في الاستفتاء نفسه.
* لا صوت يعلو فوق أزمة الطاقة
كانت القارة الأوروبية أول قارات العالم في التوقف تماماً عن استخدام الفحم في توليد الكهرباء بسبب نسبة التلوث العالية الناجمة عن ذلك، والنسبة المرتفعة للغاية من الانبعاثات الكربونية، السبب الأول وراء تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. ورفعت أوروبا شعار “الطاقة النظيفة” في جميع المحافل الدولية معلنة الحرب على الفحم.
لكن عندما بدأت أسعار الغاز في الارتفاع، وكان ذلك قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بشهور طويلة، عادت بعض الدول الأوروبية إلى استخدام الفحم في توليد الكهرباء، في مؤشر على أن المصالح أهم كثيراً من المبادئ.
دول مثل ألمانيا وبريطانيا والنمسا وإيطاليا وفرنسا والتشيك بدأت بالفعل في إعادة استخدام الفحم لتوليد الكهرباء بهدف تعويض النقص في إمدادات الغاز الطبيعي قبل حلول موسم الشتاء، وهناك دول أخرى في الطريق، إذ كلما اقترب الشتاء المرعب بينما لا تزال خزانات الغاز غير ممتلئة؛ خفتت الأصوات الرافضة للفحم خوفاً من البرد القارس والتداعيات غير مأمونة العواقب.
لكن العثور على مصدرين للغاز إلى أوروبا ليست المشكلة الوحيدة، على الرغم من محدودية إنتاج الغاز عالمياً بشكل عام، ووجود كبار منتجيه كقطر والولايات المتحدة بعيدين عن القارة العجوز، إذ تسببت أزمة الطاقة الأوروبية في اندلاع معركة عالمية من أجل خدمات ناقلات الغاز الطبيعي، ما أدى إلى نقصٍ في السفن، وزاد الارتفاع القياسي لأسعار الوقود.
نعم، كثّفت الدول الأوروبية مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة، وقطر، وغيرها من الدول المصدرة خلال العام الجاري، وجاءت هذه الخطوة بالتزامن مع قطع روسيا لإمداداتها إلى القارة العجوز. لكن الدول الأوروبية تتنافس مع نظرائها في آسيا على كمية محدودة من الإمدادات التي تنقلها أعداد محدودة من السفن، وخاصةً كوريا الجنوبية واليابان اللتين شهدتا ارتفاعاً في الطلب على الغاز إبان موجة الحرارة.
وزاد هذا التدافع من أعداد طلبات شراء الناقلات الجديدة المخصصة للغاز الطبيعي المسال، وهي سفن خاصة يساوي طولها 3 ملاعب لكرة القدم، ورفع أسعار تلك الناقلات بالتبعية. وشهدت أسعار استئجار الناقلات الموجودة قفزةً هي الأخرى، ما ساعد في رفع أسعار الغاز لمستويات قياسية داخل أوروبا وآسيا.
كما قفزت أسعار الغاز في أوروبا بنسبة 15%، خلال أغسطس/آب، بعد أن قالت روسيا إنها ستغلق خط أنابيب رئيسياً لإجراء صيانةٍ مفاجئة في وقتٍ لاحق من الشهر الجاري. وأدى ارتفاع الأسعار في أوروبا إلى صعود سوق الغاز الطبيعي الأمريكية بنسبة 3.7% إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2008. ويتوقع التجار ارتفاعاً أكبر في أسعار الغاز وإيجار الناقلات في حال عودة الصين إلى السوق قبل الشتاء، بعد أن تراجع الطلب فيها نتيجة إغلاقات كوفيد-19.
ولا شك أن التسابق على التعاقد مع ناقلات الغاز يمثل علامةً أخرى على تغيير خريطة الطاقة العالمية في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، حيث زادت الحرب من شدة المنافسة على إمدادات الطاقة المحدودة، وأعادت توجيه تدفقات السلع، وأحدثت صدعاً في أجزاء من سوق النفط والغاز العالميين بالتزامن مع دفع أنصار روسيا وخصومها لأسعار مختلفة من أجل الحصول على الوقود.
وكانت روسيا تغطي 40% من إمدادات الغاز المتجهة إلى الاتحاد الأوروبي قبيل الحرب، حيث كانت غالبية إمدادات الغاز تصل عبر شبكةٍ من خطوط الأنابيب. ولا شك أن تطوير شبكة خطوط أنابيب القارة لاستقبال الواردات من الدول المصدرة القريبة الأخرى سيستغرق بعض الوقت، لهذا أصبح الغاز الطبيعي المسال يمثل البديل الأساسي على المدى القريب. إذ يُمكن شراء الغاز الطبيعي المسال من الدول المنتجة البعيدة، قبل شحنه إلى أوروبا بسعرٍ أعلى.
أما ألمانيا التي اعتمدت لسنوات طوال على الغاز الرخيص الذي يصلها من روسيا عبر الأنابيب، فلا تمتلك محطة غاز طبيعي مسال واحدة. لكن برلين تخطط الآن لتجهيز وحدتي تخزين وإعادة تغويز بحلول نهاية العام الجاري، مع التخطيط لتجهيز المزيد من الوحدات الأخرى في العام المقبل.
يصف مسؤولون أوروبيون التحول إلى الفحم بأنه مسألة مؤقتة، وأن أهداف تغير المناخ طويلة الأجل لن تتغير، لكن في الوقت الحالي لا يمكن لأحد أن يتأكد إلى متى ستستمر “الحلول المؤقتة”.
* لا وقت “للمبادئ”!
تخلي أوروبا عن المبادئ، التي لطالما تمترست خلفها عندما كانت أمور القارة العجوز مواتية، لم يتوقف عند العودة لاستخدام الفحم بسبب أزمة الطاقة والصراع الجيوسياسي مع روسيا، والذي يرى كثير من المراقبين المستقلين أن أوروبا تورطت فيه دون رغبة ولا مصلحة بالسير في ركاب واشنطن، بل دفع الجفاف وندرة المياه الاتحاد الأوروبي للتفكير في التخلي عن مبدأ آخر.
يفكر الآن كثير من الساسة الأوروبيين في إسقاط معارضة الاتحاد الأوروبي لاستخدام الهندسة الوراثية في تعديل المحاصيل الزراعية، وهي معارضة نابعة من موقف مبدئي طويل الأمد لأسباب أخلاقية وعلمية. ففي يوليو/تموز الماضي، أعلن عضو إيطالي في البرلمان الأوروبي أنه حان وقت “تخفيف القواعد الصارمة” التي تحظر المحاصيل الزراعية القائمة على التعديلات الوراثية وزراعة محاصيل هجينة وراثياً.
“يمكن للتكنولوجيا البيولوجية الزراعية الجديدة أن توفر تجارب على نباتات أكثر قدرة على مقاومة الجفاف والحشرات”، بحسب أنطونيو تاجاني في البرلمان الأوروبي خلال أحد الاجتماعات. وانضم لتاجاني العديد من السياسيين الإيطاليين، كوسيلة لإيجاد حلول للتخفيف من وطأة الجفاف الذي ضرب البلاد هذا الصيف.
كانت إيطاليا، التي تعاني من أسوأ موجة جفاف منذ عقود، قد شهدت انخفاضاً في منسوب بحيرة “جاردا” أكبر بحيرة في البلاد، التي وصلت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، كما يعاني نهر الدانوب، الذي يشق طريقه عبر مساحة 1800 ميل بين وسط أوروبا والبحر الأسود، من الجفاف هو الآخر. كما انخفض منسوب المياه بنهر بو أطول أنهار إيطاليا، والذي يتدفق عبر قلب إيطاليا الزراعي والصناعي لأدنى مستوى خلال نحو 70 عاماً، مسبباً خسائر بمليارات اليوروهات للمزارعين الذين يعتمدون عليه في ري حقول الأرز.
وفي ظل هذا السعي الأوروبي المحموم للخروج من عنق الزجاجة وإيجاد حلول لأزمة الطاقة الخانقة، يكثف المسؤولون في الاتحاد الأوروبي من اجتماعاتهم، التي ظلت طوال الأشهر الست الأولى من الحرب في أوكرانيا منصبة على هدف واحد، وهو فرض حزم متتابعة من العقوبات على روسيا، لكن تلك الاجتماعات أصبحت الآن تركز فقط على الخروج من النفق المظلم قبل أن يحل الشتاء المرعب.
وشهد اجتماع وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي، الجمعة 9 سبتمبر/أيلول، محاولة التوصل إلى اتفاق على سبل حماية المواطنين من الارتفاع الشديد لأسعار الطاقة والحيلولة دون انهيار مرافق الطاقة، وقال دبلوماسيون من الاتحاد إن الدول الأعضاء تدعم على نطاق واسع مقترحات لحماية موردي الكهرباء من الانهيار بسبب أزمة سيولة، لكن هناك انقساماً بينها بشأن خطط لوضع حد أقصى لأسعار الغاز الروسي.
ويكشف هذا السياق عن الانقسامات داخل دول الكتلة الأوروبية بشأن التعامل مع روسيا بشكل عام، وفرض حد أقصى لأسعار الغاز الروسي بشكل خاص، فاعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي يتفاوت بين دولة وأخرى، وبالتالي فإن تهديد موسكو بوقف الإمدادات تماماً إذا فُرض الحد الأقصى يمثل كابوساً بالنسبة لدولة مثل ألمانيا، بينما قد لا يكون بالقدر نفسه من الخطورة لدولة مثل فرنسا.
الهدف الرئيسي من تلك المحادثات الوزارية هو حصر الخيارات المتاحة في تلك التي تحظى بدعم واسع قبل تقديم مقترحات رسمية، وليس التوصل إلى قرار نهائي.
وقال دبلوماسيون لرويترز إن اقتراح سقف الأسعار أحدث انقساماً في الآراء، إذ يقول البعض إنه لن يساعد في ظل انخفاض شحنات موسكو إلى أوروبا، وتخشى بعض دول وسط أوروبا، التي لا تزال تتلقى الغاز الروسي، أن تفقده بالكامل.
وهكذا تسعى الدول الأوروبية إلى إيجاد إمدادات بديلة، ويشمل ذلك بعض الغاز الروسي الذي أوقفت موسكو ضخه بعد رفض طلب روسيا دفع الثمن بالروبل. وما زالت دول أخرى، من بينها ألمانيا، في احتياج إلى الغاز الروسي وتحاول إعادة ملء مستودعاتها قبل حلول الشتاء.
وتشمل الطرق البديلة إلى أوروبا، والتي لا تمر عبر أوكرانيا، خط الأنابيب يامال-أوروبا الذي يمر عبر روسيا البيضاء وبولندا إلى ألمانيا. وتبلغ طاقة خط يامال-أوروبا 33 مليار متر مكعب، أي نحو سُدس صادرات الغاز الطبيعي الروسية لأوروبا. ومنذ بداية العام الجاري تم عكس التدفقات لتكون إلى الشرق بين ألمانيا وبولندا. وفيما يتصل بنورد ستريم 1، ألقى الكرملين باللوم على العقوبات الغربية في التأخير في عودة معدات خاصة بالخط أُرسلت إلى كندا للصيانة.
* الخلاصة
هنا هي أن الأوروبيين وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة أزمة طاقة لم يسمعوا عنها من قبل، إلا في صورة أخبار تأتيهم عن مناطق أخرى حول العالم، فانقطاع الكهرباء تخفيفاً للأحمال وترشيداً للاستهلاك هي مصطلحات غير أوروبية على الإطلاق، لكن يبدو أن التغير المناخي وحرب أوكرانيا قد أصابا القارة العجوز في مقتل، وما لم يجد قادتها حلولاً لأزمة الطاقة قبل حلول فصل الشتاء، لا أحد يمكنه التكهن بما قد تبدو عليه الحياة هناك، فهل تعود أوروبا إلى العصور المظلمة؟!
* المصدر: عربي بوست
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع

