د. محمد المدهون*



﴿وَهِيَ تَجري بِهِم في مَوجٍ كَالجِبالِ﴾‏ هود 42


غزة ليست مجرد أرض تتعرض للقصف والحصار، بل هي روح لا تنكسر، وعزيمة لا تعرف المستحيل. في قلب المحرقة، تنبض حياة لا تقبل الاستسلام، وصبر يفوق حدود البشر، وقوة تنبع من إيمان عميق بأن الحق سينتصر مهما اشتدت الظلمات. غزة، بأطفالها ونساءها ورجالها، هي الملحمة الحية التي تعلم العالم أن الكرامة لا تُشترى، وأن الإرادة التي تحفرها القلوب الصادقة أقوى من كل آلة قتل ودمار. في وجه الموت واليأس، تقف غزة شامخة، تصنع من الألم منارة أمل لا تنطفئ.

﴿وَهِيَ تَجري بِهِم في مَوجٍ كَالجِبالِ﴾ ‏ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} (هود: 42). غزة، هذه المدينة التي باتت رمزًا للمأساة والبطولة معًا، تعيش محرقة مستمرة لا تليق إلا بها، لا بالظالمين. وسط أهوال الحصار والقصف الذي لا يرحم، يسطّر التاريخ بدماء أبنائها مآسي لا تنتهي، شهداء يروون قصة شعب لا يرضى بالخنوع، لا يقبل الذل، يصبر بصبر الأساطير، ويصمد بعزيمة الجبال.

تحت وطأة آلة الموت التي لا تعرف الرحمة، تبقى غزة شامخة كالعنقاء التي تنهض من تحت الرماد، تصرخ في وجه الظالمين أن إرادتها أسمى وأقوى من كل سلاح. هذه المدينة التي تمزقها أهوال الحصار والحرب النفسية على مدار الساعة، تثبت أن البطولة ليست كلمات تكتب على صفحات، بل أفعال تُسطر بدماء وشجاعة لا تنكسر، في زمن صار فيه الصبر أرفع أشكال النضال.

كل يوم، تسجل غزة على الأرض مجازر مأساوية بأعداد شهداء بالمئات، قصف جوي وبحري وبرّي بأسلحة محرمة دوليًا، إمعان في الإبادة الجماعية، ومحاولات مستميتة لكسر الروح المعنوية لشعب ما زال ينبض بالحياة رغم الألم والدمار. لكنها ترد بصمود أسطوري، لا تعرف الانكسار، بل تزيد في ثباتها وقوتها، فتنتفض من تحت الركام لتثبت أن الكرامة الحقيقية لا تُشترى، وأن الحق باقٍ رغم كل محاولات الطمس والإبادة.

ولا تقتصر آلة القتل على الحصار والقصف فقط، بل تستمر الحرب النفسية التي تروّجها أمريكا وعصابات الإبادة، تصنع أوهام التبادل، تمارس المفاوضات التي لا تنتهي، تحاول تفكيك اللحمة الوطنية، وزرع اليأس في قلوب الأحرار، لكنها تصطدم بإرادة أمة لا تعرف الخنوع، وتقاوم بالحق والحق فقط. غزة التي أشرق نورها من قلب المحرقة ترفع الصوت عاليًا وتقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (آل عمران: 139).

غزة ليست مجرد جغرافيا على الخريطة، بل هي ملحمة الإنسان والكرامة والتمسك بالحق. في كل لحظة، يعيد أهلها كتابة صفحات البطولة بدمائهم وصمودهم، يمنحون العالم درسًا في القوة والصبر والإيمان بأن الحياة لا تنكسر مهما طال الظلام. هي رسالة لكل من يظن أن السلاح وحده يغير المعادلات، فالقلب الصامد والعزيمة الثابتة هما أعتى وأقوى سلاح.

في المحصلة، تظل غزة تسير في موجٍ عالٍ كالجِبال، تُواجه أعتى كارثة، لكنها تتحدى وتحطم أركان آلة الإبادة، تخرج من تحت الركام وكأنها العنقاء التي لا تموت. تهتف للعالم بصوت مدوٍّ: "غزة، يا عنوان البطولة والكرامة، أنت النور الذي لا يخبو في ظلام المحرقة، لا مكان لك في صفحات الظلم، بل في قلوب الأحرار ونضال الأجيال."



* المقال نقل من موقع فلسطين أون لاين ويعبر عن رأي الكاتب