غزة وثيقة إدانة لن تسقط بالتقادم!
المهندس سليم البطاينه*
لا أمثلة مؤلمة اليوم أكثر مما يحدث في غزة! ولا شيء يشبه ما حدث ويحدث الآن فيها من فعل مُمنهج وجرائم إبادة تخطت كل الحدود، وتجاوزت قدرة العقل على الاستيعاب.
في غزة كل يوم يكتب التاريخ حكايات أكثر ألماً!
يقوم الأطفال من نومهم ليجدوا أنه تم قصفهم، وأنه لم يعد لهم لا أب ولا أم، وتعلو صيحاتهم: أوقفوا الحرب، الحرب التي تقتل طفولتهم البريئة، وتحصد أرواحهم الصغيرة.
حملة القتل سائرة الى غايتها دون ارتداع! ورائحة الموت تفوح من كل بيت، وتضخّم فائض القوة لدى إسرائيل يُشير إلى أن خرائط الدم لن تتوقف في الأراضي العربية حتى يتم تحقيق الحلم الصهيوني التوراتي.
هل نأت غزة عنا؟ أم نحن الذين ناوأ بأنفسهم بعيداً عنها؟ سؤال يحرج الجميع!
الغالبية العظمى من العرب تركوا غزة وحيدة ولقمة سهلة لآلة دمار وحشية! ولم يعد أحد مبالياً بما يحدث فيها من إبادة! ولا أحد عاد يتحدث عنها، وعن دمائها التي تهرق أغزر من ذي قبل! فقد تحولت الإبادة إلى عاديات الأشياء!
الصهاينة يفاخرون علناً أن هناك تأييداً وتشجيعاً عربياً لما تقوم به، وهذا ما صرحت به قبل فترة وزيرة خارجية الكيان السابقة (تسيبي ليفني) إن الدولة العبرية وغالبية العرب يقفون في مربع واحد من أحداث المنطقة!
فـ التآمر الكوني على فلسطين ليس وليد اليوم أو الأمس القريب! بل الأمس البعيد! والحديث عن ذلك كان سابقاً مستتراً! لكنه اليوم تغيّر تغيّراً جذرياً، وسقط من قائمة المحرمات، حيث لم تعد المؤامرة حكراً على أحد! والمتابع لما يحدث يرى ان اللعب أصبح يتم على المكشوف.
من ساقه حظّه أن يعيش هذه المرحلة… الأمة العربية عاجزة بنظامها السياسي الرسمي المتهالك عن فعل أي شيء حقيقي لوقف الإبادة، فهي لا تدرك أن حالتها المستقبلية قد لا تكون بمأمن من الذي جرى في غزة! ومُخطئة إذا ما اعتقدت أن الحرب على غزة لا تتعلق إلا بفلسطين!
فنحن على مسافة صفر زماناً ومكاناً من اقتراب الدور على ما تبقى من أراضٍ عربية.
التاريخ ما قبل الحرب على غزة غير التاريخ الذي يكتب الآن… حرب غزةً قلبت حياتنا من أعمق أعماقها! وقذفتنا خمسين سنة إلى الوراء! لنعيد تقييم كل ما اعتقدنا وآمنا به ودرسناه!
مما يُثبت أنه كلما أبحرنا في صفحات تاريخنا العربي وصفقاته الخفية والسرية! تأكدنا أننا درسنا تاريخاً مليئاً بالغدر والخيانة!
في محاكمات نورنبيرغ (بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) استندت الأدلة وقتها إلى عظام وملابس وشهادات ناجين! أما في غزة الأدلة مصورة وموثقة صوتا وصورة في كل هاتف جوال لتوثيق ما حصل من إبادة ومجازر، وهي المرة الأولى في التاريخ منذ أن اخترع التلفزيون، أو آلة التصوير البدائية، التي يُدوّن فيها القاتل والمجرم جريمته بكل تفاصيلها.
في قلب مأساة إنسانية لا مثيل لها، أيُّ حربٍ هذه وأيّة مفاوضات تلك التي تدور من وراء شعب أعزل بطنه جائع وأمله مقطوع!
غزة ليست أسم مكان، بل أسم للإنسانية، وهي جرح العالم المفتوح وضميره المستتر، لن تسكت، ولن تُشطب بالتقادم: فهي كالأغنية وابتسامة الطفل، وعندما نقرر أن نقرأ التاريخ، لن يفلت أحد من حساب التاريخ… وستبقى غزّة وثيقة إدانة حية يقرأُها العالم الحر بلغة الجسد الذي يكتب على وجه الزمن.
* كاتب أردني
* المقال نقل من موقع راي اليوم ويعبر عن وجهة نظر الكاتب