أصيل علي البجلي*



في قلبِ العاصمةِ صنعاءَ الأبيةِ، وعلى امتداد ميدانِ السبعين العتيقِ، ارتسمت اليومَ الجمعة، لوحةٌ شعبيّة عظمى، لم تكن مُجَـرّد حشدٍ جماهيريٍّ عابرٍ، بل كانت تجسيدًا حيًّا لصلابةِ الإرادَة اليمنيةِ الأبيةِ في مواجهةِ العدوانِ والحصارِ، وصرخةً مدويةً خرجت من عمقِ الصمودِ الوطنيِّ.

لقد تحولَ هذا الميدانُ الأثيرُ، الذي شهدَ أمجادَ الثوراتِ اليمنيةِ، إلى منارةٍ تشعُّ عزمًا وإباءً، مؤكّـدًا أن نبضَ الشارعِ اليمنيِّ، المتماهي مع رؤيةِ القيادةِ الثوريةِ، ما زالَ حيًّا وقادرًا على صياغةِ مواقفهِ والتعبيرِ عن مطالبهِ الكبرى بكلماتٍ لا تُخطئها العيونُ ولا الآذانُ، لتُبرهنَ للعالمِ أجمعَ أن اليمنَ عصيٌّ على الانكسار، وأن سيادتَهُ خطٌ أحمر لا يمكنُ تجاوزه.

توافدت الجموعُ الغفيرةُ من كُـلّ حدبٍ وصوبٍ، من سهولِ تهامةَ الشاسعةِ إلى قممِ الجبالِ الشاهقةِ، ومن رمالِ الربعِ الخالي إلى سواحلِ البحرِ الأحمر، مجسدةً وحدةَ الصفِّ في مواجهةِ المؤامراتِ. تمازجت هتافاتُ الرجالِ وصيحاتُ الشبابِ ودموعُ الأطفال، وهم يحملون راياتِ الحقِّ وأعلامَ الثورةِ، إلى جانبَ الأعلامِ الفلسطينيةِ التي رفرفتْ عاليًا كرمزٍ للتضامنِ المطلقِ.

شكلت هذه الحشودُ سيمفونيةً وطنيةً فريدةً تعزفُ لحنَ الرفضِ القاطعِ لكلِّ أشكالِ الوصايةِ والاحتلال، وتُعلي رايةَ السيادةِ والكرامةِ الوطنيةِ المستمدةِ من قيمِنا الإسلاميةِ الأصيلةِ.

تجمعٌ حاشدٌ لم يكن موجهًا لرسالةٍ واحدةٍ فحسب، بل كان إعلانا شاملًا عن صمودِ شعبٍ يؤمنُ بحقهِ في الدفاعِ عن أرضهِ وعرضهِ، ويؤكّـد على دعمِهِ الثابتِ للقضيةِ الفلسطينيةِ ومقاومةِ الشعبِ الفلسطينيِّ الأبيِّ، ويدعو إلى حلولٍ يمنيةٍ خالصةٍ للأزمةِ، بعيدًا عن أيدي المعتدينَ ومرتزِقتهم.

إن اختيار ميدانِ السبعين تحديدًا لهذا الحشدِ يحملُ في طياته دلالاتٍ تاريخيةً عميقةً لا تُحصى، تتوافقُ مع مسيرةِ النضالِ الوطنيِّ.

فهو ليسَ مُجَـرّد مساحةٍ جغرافيةٍ، بل هو شاهدٌ على مراحلَ مفصليةٍ في تاريخِ اليمنِ الحديثِ، ورمزٌ لملاحمِ الثورةِ والصمودِ التي أرسى دعائمها الأجدادُ ويواصلُها الأحفاد.

اليومَ، يعودُ هذا الميدانُ ليُصبحَ من جديدٍ منصةً لإعلان التمسكِ بالحقِّ في تقريرِ المصيرِ، ورفضِ أية إملاءاتٍ تُصادرُ الإرادَة الشعبيّة الحرةَ. إنه تأكيدٌ لا يتزعزعُ على أن اليمنيين، رغمَ قسوةِ الظروفِ وقسوتِ المعاناةِ، يدركونَ أن مصيرَهم بأيديهم، وأن خلاصَهم يكمنُ في وحدتهم وصمودهم الأُسطوريِّ المستلهمِ من مبادئِ ثورةِ الواحدِ والعشرين من سبتمبر، والمتجذرِ في نصرةِ المستضعفينَ وقضايا الأُمَّــة المركزيةِ، وعلى رأسها قضيةُ فلسطينَ.

لقد بعثَ هذا الحشدُ المهيبُ برسائلَ متعددةِ الأبعادِ؛ داخليًّا، شكلَ دفعةً معنويةً لا تُضاهى للجبهةِ الداخليةِ، تعززُ الثقةَ بالقدرةِ على تجاوزِ المحنِ وبناءِ المستقبلِ المنشودِ، وتُجددُ العهدَ مع الشهداءِ العظماءِ.

وخارجيًّا، أرسل إشارة قويةً وواضحةً للمجتمعِ الدوليِّ ولكلِّ الأطراف الإقليميةِ والدوليةِ المعنيةِ، مفادُها أن أي حَـلّ مستدامٍ للأزمةِ اليمنيةِ يجبُ أن ينطلقَ من صوتِ الشعبِ اليمنيِّ الحرِّ، وأن يحترمَ سيادةَ اليمنِ وكرامتَهُ، وأن التضامنَ مع القضيةِ الفلسطينيةِ ليسَ خيارًا بل هو مبدأٌ ثابتٌ تتشبثُ به صنعاءُ وشعبُها الأبيُّ.

ميدانُ السبعين اليومَ لم يكن مُجَـرّد تجمعٍ عابرٍ، بل كان تجليًا حيًّا لروحِ المقاومةِ، وتأكيدًا على أن هذا الشعبَ الأبيَّ، بقيادتهِ الحكيمةِ، ماضٍ في طريقِ العزةِ والكرامةِ والاستقلال الكاملِ مهما عظمت التضحياتُ، مدركًا أن تحريرَ فلسطينَ جزءٌ لا يتجزأُ من معركتهِ الكبرى.



* المقال نقل من المسيرة نت ويعبر عن رأي الكاتب