السياسية - تقـــــرير :

على هامش ما يعيشه المشهد السياسي العالمي من أحداث يومية على امتداد الجهات الأربع للخريطة، يبرز الحديث عن التجارب النووية، وفي متنه نقاش جاد عن توصيف ما يحدث، وهل هو سباق تجارب نووية جديد، لاسيما في ظل تواتر تصريحات ملتهبة تكاد تكون يومية في هذا الصدد؟


لكن في أفق هذا التجاذب يتجلى غموضًا بقدر ما يقلل من قيمة ما يحصل، يعزز، في الوقت عينه، من المخاوف من أن العالم على أبواب سباق تسلح جديد؛ وهو ما يلح بالسؤال: هل العالم على أبواب حقبة جديدة من التجارب النووية؟


يعود الجدل حول سباق التسلح النووي من جديد، بعد عقود من الهدوء، أعقب توقيع معاهدة (ستارت 3) للحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية في عام 1991، إثر تصريحات روسية وأمريكية عن إجراء تجارب نووية، وذلك فيما يشبه العودة إلى أجواء "الحرب الباردة".



فما الذي أدى إلى العودة لاختبار قدرات الأسلحة النووية في هذا التوقيت؟



إن قرب انتهاء العمل باتفاقية (ستارت 3)، في فبراير 2026، وهو ما قد يؤدي إلى غموض في آفاق الرقابة على الأسلحة، ورفض أطراف معينة تجديدها (الولايات المتحدة تحديدا) ، وذلك بسبب التوتر القائم بين الشرق والغرب منذ اندلاع النزاع في أوكرانيا، يعد واحدًا من أهم أسباب عودة الاستعراض النووي.



وإضافة إلى ذلك، تبرز المخاوف التي تبديها أطراف دولية من الرغبة الأمريكية، وإن كانت أوهاما، في استمرار السيطرة على العالم، وعدم اعتراف واشنطن بالتغييرات السياسية باتجاه عالم متعدد الأقطاب.



وبعد الجدل الذي دار إثر إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه أمر بإجراء تجارب الأسلحة النووية "على قدم المساواة" مع الدول الأخرى (روسيا والصين) وبهدف "اختبار جاهزية الترسانة النووية"؛ نفت روسيا أن يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد أمر بالبدء في إعداد التجارب النووية.



التزام روسي بحظر التجارب النووية

أكدَّ المتحدث باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، دميتري بيسكوف، أن الرئيس بوتين لم يصدر أي تعليمات للبدء في إعداد التجارب النووية، ويتعين أولا تقييم جدواها.



ونقلت وكالة سبوتنيك، عن بيسكوف قوله: "لم يُصدر الرئيس أي أوامر ببدء الاستعدادات، أولًا، علينا أن نفهم ما إذا كنا بحاجة إلى القيام بذلك، يجب أن يكون هذا قرارًا جادًا للغاية، ومبررًا، ومدروسًا بعناية، سيعمل خبراؤنا على ذلك الآن".



وأضاف أن "بوتين أكد مرارا أن روسيا ملتزمة بحظر التجارب النووية".



وأشار إلى أنه في حالة قيام واشنطن بإجراء تجارب نووية، "ستضطر روسيا إلى التصرف بطريقة المرآة".



وأوضح: "إذا فعلت دولة أخرى ذلك (انتهكت دولة أخرى التزاماتها بحظر التجارب النووي)، فسيتعين علينا القيام بذلك من وجهة نظر الحفاظ على التكافؤ".



وقال معلقاً على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول الاختبارات الجارية المزعومة: "نحن نعرف على وجه اليقين أنه لا روسيا ولا الصين تختبر أسلحة نووية".



وتأتي تصريحات ترامب في إطار تشديد مواقفه إزاء الكرملين، بسبب اعتقاده أن بوتين يرفض التجاوب مع مساعيه لإنهاء الحرب في أوكرانيا.



وكانت روسيا قد أجرت في ظرف أيام معدودة، تدريبات لقواتها النووية واختباراً لصاروخ "بوريفيستنيك" المجنح بعيد المدى الذي يعمل بالدفع النووي، والغواصة المسيّرة "بوسيدون" القادرة على حمل رؤوس حربية نووية.



ولكنها اعتبرت بعد ذلك أن اختبارات "بوريفستنيك" و"بوسيدون" ليست بمثابة تجربة نووية، مؤكدة أن جهاز الدفع النووي والإنفجار النووي هما موضوعان مختلفان تماما.



ووفقا لبيسكوف فإن صاروخ "بوريفستنيك " وطوربيد "بوسيدون" تقنيتان عالميتان، لاتمتلكهما أي دولة أخرى في العالم.



وأكدَّ المتحدث باسم الرئاسة الروسية، أن موسكو بحاجة إلى توضيحات من واشنطن بشأن تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن التجارب النووية.



وكان الرئيس الروسي ترأس، الأسبوع الماضي ، اجتماعًا لمجلس الأمن الروسي ، صرّح خلاله وزير الدفاع، أندريه بيلاسؤوف، أنه يرى من المناسب بدء الاستعدادات لاستئناف التجارب النووية في موقع تجارب "نوفايا زيمليا".



وأمر بوتين بجمع المعلومات، وإجراء تحليل وتقديم مقترحات بشأن إمكانية بدء الاستعدادات لاختبار الأسلحة النووية.



وأكد المندوب الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، أن على روسيا الاستعداد في حال استئناف الولايات المتحدة الأمريكية التجارب النووية.



وفي خطاب استراتيجي موجه لواشنطن وبروكسل، أكد بوتين أنّ الصاروخ المجنح الجديد الذي يعمل بالطاقة النووية "يوريفيستينك" يتفوق على جميع أنظمة الصواريخ المعروفة في العالم من حيث مدى الطيران، مشيرا إلى أنّ السلاحين النوويين (بوسيدون ويوريفستينك) سيضمنان الأمن والتكافؤ الاستراتيجي لعقود قادمة بل للقرن الحادي والعشرين بأكمله.



تنسيق دولي

وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أوضح أن موسكو لم تتلق أي توضيحات رسمية من الجانب الأمريكي بشأن تصريحات الرئيس دونالد ترامب عن احتمال استئناف التجارب النووية.



وأشار الى أن روسيا تتابع الموقف عن كثب وتنتظر تفسيرا رسميا من الإدارة الأمريكية.



وأضاف الوزير الروسي أن بلاده "تولي أهمية كبيرة للحفاظ على نظام حظر التجارب النووية وضمان الاستقرار الاستراتيجي"، مؤكدا أن أي خطوات في هذا الاتجاه يجب أن تكون "منسقة على المستوى الدولي" لتجنب تصعيد التوتر.



وأثار إعلان ترامب قلق إيران التي وصف وزير خارجيتها ،عباس عراقجي، القرار بأنّه خطوة "رجعية وغير مسؤولة".



وقال عراقجي، في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي: "متنمّر مسلح نوويًا يستأنف تجارب الأسلحة النووية، والمتنمّر نفسه كان يشيطن برنامج ايران النووي السلمي"، معتبرًا أنّ هذا الإعلان يُشكّل "تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن الدوليين".



أما الصين، فقد جاء موقفها مطالبا بحماية التوازن والاستقرار العالمي ، عندما دعا المتحدث باسم وزارة خارجيتها، غوو جياكون، في مؤتمر صحافي، واشنطن إلى اتخاذ "إجراءات ملموسة لحماية نظام نزع الأسلحة النووية ومنع الانتشار العالمي وحماية التوازن والاستقرار الاستراتيجيين العالميين".



ومن ناحيتها، اعتبرت الأمم المتحدة أنّ التجارب النووية غير مسموح بها "تحت أي ظرف".



وقال فرحان حقّ مساعد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ، أنطونيو غوتيريش ، : إنّ "الأمين العام أكد مرارًا أن المخاطر النووية الحالية مرتفعة للغاية في شكل يُنذر بالخطر، ويجب تجنّب جميع الإجراءات التي قد تُؤدي إلى سوء تقدير أو تصعيد تكون له عواقب وخيمة، ولا يُمكن السماح بإجراء التجارب النووية تحت أي ظرف".



وفي مواجهة خصم نووي مُسلح في الشمال (كوريا الشمالية) وتساؤلات حول الضمانات الأمنية الأمريكية، ناقشت كوريا الجنوبية مزايا امتلاك قدراتها النووية الخاصة.



وتُفيد بيانات "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" بأنّ روسيا تملك 5489 رأسا نووية، فيما تمتلك الولايات المتحدة 5177 رأسا ، و600 للصين.



صعود الذكاء الاصطناعي

يقول بريت ماكغورك محلل الشؤون العالمية في شبكة CNN، " في صيف 2022، رافقتُ الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إلى قمة مع قادة من مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وخلال جلسة عمل، سأل أحدهم بايدن عن قضية واحدة أبقته مستيقظًا، ودون تردد، أجاب: "الحرب النووية".



فوجئتُ بالإجابة؛ لأن هذا التهديد الذي يُمثل التهديد الأكبر، بدا مُحتوىً على مدى العقود الأخيرة، ولكن في ذلك الوقت، ومع وجود أوروبا في جبهة حرب تشنها روسيا، وهي قوة نووية، وتآكل ترتيبات الحد من الأسلحة النووية، إلى جانب صعود الذكاء الاصطناعي وسباق التسلح النووي المُتصاعد مع الصين، كان من المُفاجئ ألا تحظى هذه القضية بمزيد من الاهتمام بالنظر إلى المخاطر المُترتبة عليها.



ويضيف ماكغورك " الأسبوع الماضي، كان الفيلم الأكثر مشاهدة على نتفليكس هو "بيت الديناميت"، الذي يدور حول صاروخ نووي متجه إلى شيكاغو ويتجنب الدفاعات الجوية".



وعن تبادل التصريحات الأمريكية الروسية حول إجراء تجارب الأسلحة النووية، يتساءل "ماذا يحدث؟ دعونا نحاول فهم الأمور" ، مضيفا "على خلفية هذه العناوين الرئيسية، يبرز التآكل المستمر لاتفاقيات الحد من الأسلحة التي تعود إلى الحرب الباردة".



وتُعرف معاهدة "ستارت 3"، أو معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية بمحورها الأساسي، والتي قضت، عند توقيعها عام 1991، بنهاية سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حيث فرضت تخفيض الترسانات النووية مع التفتيش والتحقق في كلا البلدين.



وحسب محلل "سي إن إن"، "سيؤدي زوال معاهدة "ستارت3" إلى إلغاء آخر معاهدة متبقية للحد من الأسلحة بين القوى النووية الرائدة في العالم". إلا أنه يرى أن " نفور ترامب من الاتفاقيات الدولية، وما يُنظر إليه من "ظلم" في مثل هذه الاتفاقيات تجاه المصالح الأمريكية، يزيد من احتمالية إبرام ترتيبات جديدة".



ويشير ماكغورك إلى أنه "وبينما قد يظل خطر تبادل الأسلحة النووية منخفضًا، يدخل العالم حقبة لم نشهدها منذ الحرب الباردة، مع احتمال توسع غير مسبوق للأسلحة النووية من قِبل القوتين النوويتين الرائدتين (اللتين تُمثلان 90% من جميع أنظمة الأسلحة القابلة للنشر)، وكذلك من قِبل دول لم تنضم بعد إلى النادي النووي".



وخلص إلى أن "العالم يدخل حقبةً غير مُحددة من المخاطر النووية، والحل ليس في إجراء تجارب نووية جديدة، بل في حملة مُنسَّقة مع الحلفاء والشركاء لتعظيم الردع ضد أي استخدام مُتصوَّر، مع العمل على إرساء معايير جديدة ضد المزيد من التوسع في الأسلحة النووية وإدارة استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة صنع القرار".



سباق تسلح أم رسالة ردع؟

وأعرب خبراء عسكريون وسياسيون روس عن قناعتهم بأن طلب ترامب إجراء تجارب نووية لا يعني بالضرورة ترجمته إلى تفجير ذخائر نووية على أرض الواقع، معتبرين أن إجراء روسيا اختبارات لأحدث أسلحتها ليس من باب إطلاق سباق تسلح جديد، بل شكّل رسالة ردع قد تليها تهدئة والتوصل إلى حلّ وسط في مسألة مستقبل الرقابة على الأسلحة.



وأوضح رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بليخانوف الاقتصادية الروسية، أندريه كوشكين، لموقع "العربي الجديد"، أن "الاستعدادات لإجراء تجارب نووية تستغرق ما لا يقل عن عام نظراً لتقادم المعدات بميدان التجارب الأميركي نيفادا"، متوقعاً في الوقت نفسه أن تجري واشنطن اختبارات وتدريبات على استخدام السلاح النووي بلا تفجيرات.



وحول ما إذا كان الأمر سيفضي إلى سباق تسلح جديد، قال كوشكين، الذي خدم لثلاثة عقود في الجيش السوفييتي والروسي، ويحمل رتبة عقيد احتياط، إنّ "تصريحات ترامب بشأن الاختبارات النووية لا تعني بالضرورة إجراء تفجيرات لذخائر نووية على أرض الواقع، خصوصاً أن الاستعدادات لها قد تستغرق ما بين سنة وثلاث سنوات لتهيئة ميدان التجارب نيفادا، الذي أجريت فيه خلال السنوات الأخيرة تجارب بلا انفجارات لذخائر نووية".



ولفت إلى أن "الاختبارات النووية لا تقتصر على تجارب تفجير قنابل نووية، بل تشمل أيضاً محاكاة إجراء عمليات التفجير بواسطة أجهزة الحاسوب"، مشيراً إلى وجود عقبات أخرى أمام التجارب النووية الحقيقية، مثل ضرورة الانسحاب الكامل من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، بالإضافة إلى الأعباء الاجتماعية، مثل حتمية خروج تظاهرات مناهضة لاستئناف التجارب النووية في الولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء.



بدوره، اعتبر الخبير في "مكتب التحليل العسكري السياسي"، الأستاذ المساعد في قسم التحليل السياسي في جامعة بليخانوف الاقتصادية الروسية، فاديم ماسليكوف، أن اختبار صاروخ بوريفيستنيك أثار مخاوف الإدارة الأميركية، نظراً لقدرته على التحليق لمسافات غير محدودة، متوقعاً أن تستخدم روسيا هذه الورقة ضمن المساومات بشأن شروط إبرام معاهدة جديدة للحد من الأسلحة الاستراتيجية.



وقال ماسليكوف لـ "العربي الجديد": إن "اختبارا بوريفيستنيك وبوسيدون أجريا من دون حشوهما بالذخيرة النووية رغم أنهما كليهما يعملان بالدفع النووي، ما أثار مخاوف ترامب والمحيطين به، خصوصاً أن بوريفيستنيك قادر على اختراق كافة المنظومات للدفاعين الجوي والمضاد للصواريخ".

سبأ