خطى الرسول الأكرم
د. محسن القزويني*
بمناسبة المولد النبوي الشريف يستذكر المسلمون سيرة نبيهم الكريم في حكمه لبلاد الجزيرة العربية، يستذكرون الانسان الحاكم والحاكم الانسان.
الانسان الحاكم في تواضعه وشفقته وحبه للغير وعطفه على الصغير واحترامه للكبير.
والحاكم الانسان في عدله ومساواته ورعايته للمصالح وحكمه للبلاد بالطرق الإنسانية.
يستذكرون كيف استطاع الرسول الاكرم ان يلم شتات البشرية ويلغي تناقضاتهم وصراعاتهم ويصنع منهم امة واحدة؛ هي خير الأمم؟
يستذكرون كيف تحوّل العرب من جاهلية ظلماء إلى صنّاع للحضارة؟
يستذكرون قانون الاخوة الذي سنه الرسول الاكرم في بداية دولته والذي قضى على الفوارق الطبقية والنعرات القبلية وصهر الاوس والخزرج وكل القبائل العربية في كيان واحد.
يستذكرون صحيفة المدينة التي نظمت العلاقة بين الدولة الإسلامية وخصومها من الكيانات غير المسلمة والتي وضعت أسس التعايش والسلام والمحبة بين كافة الطوائف والملل.
يستذكرون المسجد الذي بناه رسول الله مكاناً للسياسة والعبادة ليعطي الدليل بان السياسة والعبادة هما شيء واحد في الإسلام لا تفرق بينهما الا الاهواء والمنافع الشخصية والتفكير المصلحي والانتماءات الضيقة.
هذا هو رسول الله قدوة لكل انسان يريد أن يصبح حاكماً.. ولكل حاكم يريد أن يكون انساناً.
وإذا لم يسع حكام اليوم الاقتداء بالرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم واتخاذه قدوة لهم في حكم البلاد بطريقته الإنسانية، فهذا الصيني الأصل ( لي كوان يو) الذي اقتفى اثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكم سنغافورا فاستطاع أن يحول أفقر مدينة إلى رابع أهم مركز مالي في العالم، استطاع أن يحول سنغافورا من اكوام النفايات إلى أنظف مدينة في العالم.
أنصح كل حاكم وسياسي أن يقرأ كتاب (لي كوان يو) قصة سنغافورا الذي ترجم إلى بقية اللغات ومنها العربية ليضعوا لأنفسهم خارطة طريق التقدم إذا أرادوا ذلك لبلادهم ولا حجة لهم بعد ذلك فقد استطاع هذا الرجل ان يغير بلده من مستنقعات تعج بالروائح الكريهة إلى أعظم صرح حضاري تعانق سماءه ناطحات السحاب بأشكال هندسية متنوعة وبشوارع نظيفة وبمصانع ومزارع وحقول وارض خضراء على مد البصر.
فكيف استطاع هذا الرجل ان يصنع هذه المعجزة.؟
نقتبس من أقواله وكتاباته وتصريحاته هذه العبارات:
يقول لي كوان يو :
– إصنع الانسان قبل كل شيء.
– الدول تبدا بالتعليم وهذا ما بدأت فيه عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة، اهتممت بالاقتصاد اكثر من السياسة وبالتعليم اكثر من نظام الحكم.
لقد جَعلتُ سنغافورا خضراء نظيفة.
– لا اعتقد ان طريق الديمقراطية تؤدي إلى التنمية بل أرى ان البلد يحتاج إلى النظام اكثر من حاجته إلى الديمقراطية.
– نحن نعلم اننا لو سرنا على نهج الدول المجاورة سنموت فنحن لا نملك شيئاً بالمقارنة مع ما يمتلكونه من موارد ولهذا ركزنا على انتاج شيئاً مميزاً وافضل مما لديهم وهو القضاء تماماً على الفساد، واختيار أصحاب المناصب والنفوذ بناءً على الجدارة والاستحقاق وقد نجحنا.
– تنظيف البلاد من الفاسدين يبدأ من فوق السلم وليس من تحت.
وفعلا كان وفيا لكلماته حيث جاءت مقرونة بالعمل إذ ابتدأ بأقرب المقربين إليه من قيادات حزب العمل الشعبي وبعدد من وزرائه وقدمهم إلى المحاكم بسبب فسادهم فأصبحت سنغافورا سادس دولة في مكافحة الفساد.
وعندما وجد شعبه منقسماً بين المهاجرين الصينيين والملاويين وما بينهما من حروب ومعارك وبين مهاجرين من الهند وجنوب شرق آسيا، بين مسلمين وكنفوشيين وطوطميين و مسيحيين لم يجد افضل من كلمة – الوطن – ليجمع الكل تحت هذا العنوان الذي اصبح سر الوجود لهذا البلد المقسم الأعراق والانتماءات، 75 % منهم صينيون و 14% ماليزيون و 9% باكستانيون واندونيسيون وهنود وامام هذا التحدي جعل لي كوان يو الأولوية للوطن واعتبر المصلحة العامة فوق كل شيء.
ومن اجل انصهار الجميع في بوتقة الوطن اعلن عن هذه المبادئ:
– التعليم للجميع
– الإسكان المختلط
– التشارك المتساوي للجميع في إدارة البلد
– الأمان الوظيفي للجميع وعدم الاستثناء.
واستطاع بهذه السياسة ان يجمع الخليط غير المتجانس من الشعب السنغافوري ويصنع منهم امة متكاتفة متعاونة.
وبعد ان قضى على الفساد ووحد الشعب سنّ نظرية التحفيز؛ وهو توجيه الشعب نحو السياسات التي تريدها الدولة باجراءات بسيطة تجعل أبناء الشعب على أهبة الاستعداد لتطبيقها بدون مصادرة حريتهم في الاختيار. وقد أعطت سياسة التحفيز اثرها الكبير في بناء اقتصاد متين قائم على مشاركة جميع أبناء الشعب.
وهكذا استطاع لي كوان يو ان يحول سنغافورا وخلال ثلاثة عقود من بقعة هي الأخطر في العالم من حيث النزاعات القومية و نهب الأموال وانتشار الرشاوي إلى سادس دولة في مكافحة الفساد. فاصبح الفرد في سنغافورا يتمتع بحياة رغيدة فانخفضت البطالة إلى اقل ما يمكن 2%وحظي الفرد برعاية صحية ممتازة حيث هناك طبيب لكل 837 شخص وسرير في مستشفى حكومي لكل 269 شخصً لذا استطاعت الحكومة ان تطوق جائحة كورونا منذ بداية انتشارها في العالم بفضل الوعي الشعبي وصرامة النظام وشدة التقيد بالتعليمات بالإضافة إلى الرعاية الصحية الممتازة.
لقد استطاع لي كوان يو ان يمتلك القلوب قبل الأجساد ويوم اعلن عن استقالته جاءه شعبه وهو باكي يطالبه بالعودة إلى حكم البلاد بالرغم من انه حكم سنغافورا 35 عاماً.
* المصدر : رأي اليوم
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع