علي الزعتري*

معروفٌ أن الأزمة بين لبنان ودول خليجية تتجاوز تصريح وزير الإعلام جورج قرداحي. فالرجل الذي غادر محطةً إعلامية سعودية على خلفية مبدأ يبقى يتشبث بالصفةِ ذاتها وزيراً. لكن الاستغراب هو الرد الحاد و القرارات العقابية بناءً على تصريحٍ لا يزيد أو يًقَلل لا في حدة الحرب اليمنية و لا الأزمة اللبنانية المتدحرجة.

و العجيب أن ما قاله قرداحي ردده غيره من قادةٍ و شخصياتٍ عن عبثيةِ الحرب على اليمن. و لم يكن من ردٍّ خليجي عليهم و لا حتى على تصريحات دونالد ترمب الفجة و المتكررة عن حماية الخليج و هي حملت مظاهر عنصريةٍ و دونيةٍ كريهةٍ كانت تستوجب الرد.

المتداول أن ردودَ الفعل الخليجية تعكس ضيقاً من انحسار وضعف تأثيرها داخل لبنان أمام ما تراه النفوذ المعادي لها هناك. و واضحٌ أنه بلبنان هناك الذين يصطفون بين مجاهرٍ بمعاداة السعودية و حلفائها لأسباب متعددة، من بينها اليمن و سوريا و إيران، و بين من ينأى عن هذه المجاهرة بالدبلوماسية و يحاول أن يبقى خارج حلبة الصراع المباشر، و واضحٌ أنهم كذلك مهتمون باستمرار توهين التأثير الخليجي بلبنان.

ففي حساباتهم أن لبنان قد عَبَرَ نقطة الشعور بالألم من سياسة بعض دول الخليج العربي كما أن وهنَ التأثير الخليجي هو قوةٌ للتأثيرِ المناهض، سواء كان المناهض إيرانياً أم شعوراً بامتلاك زمام البلد، و يرى، وهو الأهم، أنه أصبح أكبر من التهديد و أقدر على المواجهة. على المقابل هناك من لا يريد نفوذاً غير السعودي الخليجي، أو نفوذ طائفةٍ بعينها، و يناصر كل ما يُضعفُ النفوذ المناهض.

هذا توصيفٌ مُبسَّطٌ للعلاقة الشائكة يغفلُ عن احترام فِكرِ النضوج لدي الشعوب و تطورها و رغبتها أن تحكم نفسها بنفسها دون نفوذٍ طاغٍ عليها. اللبنانيون أسيادُ أنفسهم و المفترض أن حياتهم و قراراتهم هي من صنعهم. لكن النزعةَ هي أن يُعتبرَ لبنان ساحةً للسجالِ واللبنانيين دُمىً تتحرك بإرادةٍ ليست لهم. و هذا هو جوهر الخلاف: الاستقلال الذي يعني السيادة والحرية وكيف يرى اللبناني هذا الاستقلال و كيف يرى مصلحته مع الخارج و يوازن بينهما.

دافع سليمان فرنجية رئيس تيار المردة و حزبُ الله، و الحزب لا يُخفي غضبه على السعودية و لا حلفه مع إيران، عن جورج قرداحي. وهذه كافيةً مع التصريح للغضبةِ الخليجية المتجددة و لقساوةِ السعودية على لبنان، كما وصف وزير الخارجية اللبناني. لم يكن جورج قرداحي على الأغلب بواردِ خلقِ أزمةٍ أو المجاهرة بهذا الأسلوب بل كان بوارد النجاح سياسياً و هو وزيرٌ بحكومةٍ جاءت بعد آلام، مثلما نجح إعلامياً. لكنه هوجم في موجعٍ شخصيٍّ له وهو تمسكه بالدفاع عن مبادئه. ثم مع ارتفاع حدةِ الغضب الخليجي عليه طَوَّرً موقفه الشخصي المبدأي كوزيرٍ بحكومةٍ ذات سيادة، مُصِراً لهذا أَلَّا يستقيلَ بإملاءٍ من الخارج. و هو يرى بموقفهِ استقلالاً مطلوباً في عالمِ السياسةِ اللبناني.

هل كان قرار جورج قرداحي بعكس ما توقع المراقب؟ في عالم السياسة حين المثاليات نادرة و المصالح كاسحة لربما كان هذا صحيحاً. فقد برزَ موقفه كسياسي مع موقفه الإعلامي و قَدَّرَ أن مثاليته و مصلحته تلتقيان مع مصلحةِ الحكومة و لبنان المستقل السيادي برفضهِ الضغوط الخليجية في الدعوة لإقالته. و لكن إن صَحَّت الأخبار أن واشنطن و باريس لا تريدان للحكومة الإستقالة، مما يعززُ موقفه و يُهَمِشُ موقف الخليج، فيجب عَدْلاً أن يُؤخذَ بعين الإعتبار أن موقف العاصمتين المضاد للمطلب الخليجي يُشَكِّلُ بحد ذاته إملاءً هو الآخر! و الأصل أن قرار البقاء أم الإستقالة قرار سيادي بلا إملاءات.

و الجلِّيُ الآن أن الأزمة باتت مُعلَّقةً بين رغبتين متعاكستين و لهما داخل لبنان إصطفافات حزبية و غريبة مثل توافق من هو ضد السعودية مع رغبة واشنطن و باريس. عموماً، هذا هو عالم السياسة المصلحي في حالة اللا توازن اللبنانية. أما رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي فيرى نفسه و حكومته بين الخليج، باستثناء قطر وسلطنة عمان، الذي يطالب برقبة الوزير، و الغرب الذي يقول له لا تستقيل و الوزير الذي لا يريد الاستقالة، في وقت يضجُ لبنان فيه بملفات الكهرباء و الغلاء و الغاز المحتل بالبحر و تحقيق الميناء و خراب البيوت و تحقيق الطيونة و انفلاتات الفتنة و هي المواضيع التي تشكل أولوية للحكومة.

بالتحليل المتجرد و الملتزم بالحياد ما أمكن، هذه الأزمة اللبنانية الجديدة أصْلَها الظاهر هو اليمن، فهل كانت الحرب على اليمن إلا عبثيةً؟ من الجهالةِ أن نعتبرَها حرباً مثاليةً! من العبثِ أن نقول أنها حرب الدول التي تُدافع عن شرعيةِ الديمقراطية فلا السعودية ديمقراطية ولا اليمن كان أو هو اليوم ديمقراطيةً و لا إيران بالحقيقة ديمقراطية، بل كانت وتبقى اليمن محكومةً بالنفوذ القبلي و الانتفاع و قُوى العسكر، و إيران محكومةٌ بالثورة الإسلامية و السعودية ملكية. و من العبثِ أن نعتقِدَ أن خلاف السعودية و اليمن هو خِلافٌ محوره أن هذا وهابي و ذاك زيدي، أو أنهُ سني ضد شيعي، مع أن هذا الخلاف الأخير عمره ١٤٠٠ سنة و لن يختفي قريباً. بل هو في الحقيقةِ صراعٌ تاريخي طويلٌ عمره عشرات السنين يمر دوماً بمراحل التهادن و الخلاف و القبول و الرفض و السعةِ و الضيق على أرضية العلاقات القبلية و الحكومات اليمنية العقائدية و تواجد العمالة اليمنية في السعودية و بسبب الثروات الجوفية و الإطلال على الممر البحري و الأصول المتشابكة و القلق من المُسَّلَماتِ الدينية لطوائف في اليمن و السعودية. و من العبث أن نعتقد أنه لم يكن بالإمكان التوصل لحل سياسيٍّ بدل الحرب بعدما قال جمال بن عمر الذي كان ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لليمن أن إتفاقاً تم التوصل له و أُسْقِطَ مما أدى لتفاقم الحرب. و من العبثِ أن نعتقد أن إيران و حزب الله لم يدعما الحوثيين و إلا فمن أين أتت هذه التقنية الحربية اليمنية بالصواريخ و المُسَيرات المتفجرة في حربٌ مُستعِرة منذ تسعة أعوام لا مُنتصرَ فيها كما قلت و أقول إلا الموت. كما إنها قِمةُ العبثية باعتراف الأمم المتحدة أن اليمن الذي هو من أفقر وأقل الدول نموا يُغارُ عليهِ بأعتى و أحدثَ الأسلحة ليزيد فقرهِ و تخلفه و أمراض شعبه و يُحاصرَ براً و جواً و بحراً و تتحول إمكاناته الداخلية المتاحة، على شُحتها، من قبل حكوماتِ وسلطاتِ اليمنيين في صنعاء و عدن و الرياض من علاجِ وتنميةِ اليمنيين لتمويل الحرب و من العبث أن تُحتل و تتفتت أراضيه بين مدعومٍ سعودياً و مدعومٍ إماراتياً و مدعومٍ إيرانياً. و من العبثِ هجوماً مبرراً أو غير مبرر على مطارات مدنية و منشآتٍ نفطية هي في الواقع ثروات شعب في جانبي القتال. من العبثِ فعلاً العبثَ بالشعوبِ التي لا ناقة لها و لا جمل بلعبةِ الأمم. في هذه لم يخطأ الإعلامي الوزير قرداحي.

لا أحد يدري إلى أى مدى ستتطور هذه الأزمة اللبنانية و هي من الضغوط التي تمارس بين الحين والآخر لخلخلة الغريم و دفعه للتنازل و الخسارة و فقدان الزخم. أما كيف تنتهي فإن أزمة التصريح بحد ذاتها فعلا انتهت عندما قالت السعودية أن سببها ليس التصريح بل سيطرة حزب الله وإيران في لبنان. جورج قرداحي ليس إلا الظاهرة وسواءَ بقي أم استقال فأصلُ الخلاف باقي. لن يخفف الخليج الضغوط على لبنان الذي سيختبرُ آلاماً عقابيةً متجددة إلى حين، كما يود الخليج، يتحرر لبنان من قبضة الموالين لإيران.

وبالطبع لن يكون هذا أو لن يكون سهلا ولن يكون من غير ردود. و لن يتوقف اللبنانيون المناهضون للسياسة السعودية عن مهاجمتها و دعم خصومها. ولأنها كما يرى كل طرف قضية بقاء أو زوال فلا نهاية متوقعة لها، وسيظل لبنان ساحةَ السجال بين القوى التي تتصارع على النفوذ. و سيبقى اللبناني يعاني ما لم تقف الحرب اليمنية و تتصالح السعودية و إيران مع الاتفاق بينهما على كبت الصراع في المنطقة للحد الممكن. لكن حتى هذا لن يعدو كونه استراحةً لن تلبث أن تنتهي ليعود الصراع من جديد. إن قَدَرَ لبنان و المنطقة أن يكون منطقة صراعٍ للنفوذ. هكذا يقول التاريخ و الجغرافيا و عالم المال.

* المصدر : رأي اليوم
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع