السياسية || محمد محسن الجوهري*

في سبتمبر 2024، نشرت مقالًا بعنوان "نصيحة لليهود: الرهان على الحماية الأمريكية خاسر"، تناولت فيه هشاشة الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني، خاصة في البحر الأحمر، حيث تخلّت واشنطن عن لعب دور الحارس الأمني المباشر لسفن الاحتلال، مكتفية بتأمين مصالحها الخاصة، دون أن تلقي بالًا لمصير تلك السفن التي كانت تراهن على الغطاء الأمريكي الكامل.

واليوم، وبعد مضي قرابة عامين على الحرب المدمرة التي شنّها جيش الاحتلال على غزة، تبدو نتائج المعركة أقرب إلى الانتحار السياسي والعسكري، فخسائر الجنود تتزايد، والعتاد يُستنزف والجبهة الداخلية تهتز يومًا بعد يوم، فيما تقف القيادة الصهيونية عاجزة عن فرض أي نوع من الحسم أو الردع. وفي ضوء هذا الفشل المتراكم، يصبح من المنطقي أن يبحث الاحتلال عن بديلٍ مريح، أقل تكلفةً وأقل خطرًا، ولن يجد بيئةً أنسب من سورية الجديدة التي ولدت بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024.

هذه الحكومة التي لم تخفِ منذ أيامها الأولى ولاءها للمشروع الأمريكي الصهيوني، إذ جاءت عبر ترتيبات خارجية ورعاية استخباراتية معلنة وغير معلنة، وتحدث وزراؤها عن الانفتاح على "الشركاء الدوليين لمحاربة الإرهاب"، وهي العبارة التي لطالما استخدمها عملاء الاحتلال لتبرير التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، وليس هذا فحسب، بل شهدت العاصمة الأردنية عمّان لقاءً ثلاثيًا ضم ممثلين عن الحكومة السورية الجديدة والإدارة الأمريكية والجانب الإسرائيلي، وتم تسريبه لاحقًا عبر وسائل إعلام عبرية دون أن يصدر أي نفي رسمي، مما يعكس رغبة واضحة في التأسيس لتعاون أمني طويل الأمد.

أما الغارات الإسرائيلية المتكررة على مواقع داخل سورية، فلم تحرك لها الحكومة الجديدة ساكنًا، بل إن صمتها العميق كان أشبه برسالة رضا، خاصة بعد أن صرّح الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن تلك الضربات تتم بتنسيق مسبق مع جهات محلية لضمان "عدم الانجرار إلى التصعيد"، وهو التصريح الذي مرّ مرور الكرام في الإعلام السوري الجديد. ومن جهة أخرى، بدأت هذه الحكومة حملات قمع ممنهجة لكل صوت يرفع شعار المقاومة أو يعبّر عن رفضه للتطبيع، فاعتُقل العشرات في الجنوب السوري بتهم جاهزة من قبيل "التحريض على الفوضى" و"تهديد الأمن الوطني"، وهي التهم ذاتها التي كانت تُستخدم سابقًا ضد مناهضي الاحتلال الأمريكي، لكنها اليوم باتت تُستخدم لخدمة المشروع الصهيوني ذاته.

وفي ظل هذه الوقائع، تصبح دمشق هدفًا سهلاً للصهاينة، لا سيما إذا ما قورنت بغزة الصامدة، فـ"إسرائيل" اليوم مخيّرة بين الدخول السلمي إلى الأراضي السورية، حيث تنتظرها حكومة تفرش لها السجاد الأحمر باسم "السلام الإقليمي"، أو أن تفتعل معركة شكلية تتيح لها دخول دمشق عسكريًا بغطاء دولي، في سيناريو يعيد إلى الأذهان ما جرى في بيروت عام 1982، حيث جاءت "إسرائيل" "فاتحةً" وسط تصفيق بعض العرب وتمويل بعض الأنظمة.

إن العدو الصهيوني رغم عنصريته المقيتة لا يُغامر عندما يكون الربح مضمونًا، وهو يعلم أن مقاومة غزة عصيّة وأن أهلها لا يركعون، بينما في دمشق هناك من يشتاق لاستقباله ويعدّ لقدومه أسباب التمكين، لا فرق في ذلك بين من يرتدي بدلة "مدنية" في الحكومة الجديدة، أو من يحمل راية "الجهاد" المزعوم ويكفّر كل من يرفض التطبيع. لذا، إن كانت غزة قد أذلّت جيشكم وأربكت قيادتكم، فجربوا دمشق، فأنتم فيها المنتصرون دون معركة، والمُستقبل هناك لا يحتاج إلى دبابة بل إلى إيماءة من واشنطن، أما الباقي فستتكفله العواصم المطبّعة.

إن غزة ليست مجرد رقعة جغرافية محاصرة، بل هي ساحة اختبار للمعنى، وهي آخر ما تبقى من فكرة المقاومة الصافية التي لا تتنازل عن شبر ولا تُقايض على دم، بينما دمشق اليوم في ظل هذا الواقع المشوَّه، باتت مفتوحة أمام الصهيوني، بلا مقاومة، بلا كرامة، بلا حتى محاولة للتمويه. إنها لا تحتاج إلى قتال، بل إلى قرار، والقرار ليس في تل أبيب ولا في الجولان، بل في واشنطن التي إذا أومأت، تحرّكت الأذرع، ونطقت العواصم، وانطفأت الهزيمة تحت عباءة التحالفات الجديدة.

لهذا، ولأسباب أكثر مما يقال، فإن النصيحة التي أسديتها بالأمس لا تزال صالحة اليوم ولكن بصيغة معدّلة: إذا كانت غزة لعنةً لا تنكسر، فجربوا دمشق، فأنتم فيها لا تحتاجون إلى جيش، بل إلى نوايا هشة، وسلطة بلا عمق، وجيش بلا عقيدة، وشعبٍ مرهقٍ تم قمعه باسم "الخلاص".


* المقال يعبر عن رأي الكاتب