ذكرى الاستقلال في ثقافة المرتزقة
محمد محسن الجوهري*
بالأمس، كانت السفارة الأميركية في صنعاء تحتفل بالذكرى السنوية لثورة 26 سبتمبر، وتدعو مختلف الأطراف السياسية للمشاركة في الفعالية، في مشهد يعكس حجم النفوذ الأميركي آنذاك ودوره المباشر في إدارة المشهد السياسي اليمني، ومحاولة الظهور بمظهر الراعي الجامع لمكوّنات الساحة.
وقد حملت تلك الدعوات دلالات سياسية واضحة، حيث سعت واشنطن إلى توظيف المناسبة لتعزيز حضورها، وترسيخ علاقاتها مع القوى الفاعلة، والتأكيد على موقعها كطرف مؤثر في إعادة تشكيل التوازنات الداخلية وفق مصالحها الإقليمية.
غير أنّ هذا الاحتفاء الأميركي لم يشمل سوى ذكرى ثورة 26 سبتمبر دون سواها، في انتقائية لافتة؛ إذ غابت ثورة 14 أكتوبر، وذكرى الاستقلال في 30 نوفمبر، عن البروتوكولات والاهتمامات الأميركية في اليمن. وهو تغييب لم يكن عفويًا، بل عكس مقاربة سياسية ترى في بعض المناسبات قابلية للتوظيف السياسي أكثر من غيرها، تبعًا لانسجامها مع السردية الأميركية حول الدولة والسلطة والنفوذ، في مقابل تجاهل محطات تاريخية ارتبطت بالتحرر الكامل من الهيمنة الخارجية، ولا تنسجم مع مزاج السياسة الأميركية أو مصالحها في المنطقة.
ومن هنا نلحظ كيف تحتفي فصائل المرتزقة، على اختلاف مسمّياتها، بالمناسبة ذاتها التي احتفى بها الأميركيون، وبصورة مبالغ فيها، لما يحمله ذلك من تداعيات قد تسهم في إشعال صراع داخلي بين فئات الشعب الواحد. فهذه الثورة لم تكن محل إجماع وطني في حينها، وهو ما تؤكده الحرب التي أعقبتها واستمرت لسنوات. وعلى النقيض من ذلك، يختلف موقف اليمنيين جذريًا تجاه المحتل الأجنبي، إذ شكّل العدو الخارجي محل إجماع وطني واسع. ومن هذا المنطلق، فإن إحياء المناسبات المرتبطة بالتحرر من الاحتلال البريطاني يتعارض بطبيعته مع واقع الهيمنة الأميركية، التي لا تختلف في جوهرها وممارساتها عن شكل من أشكال الاحتلال الذي ثار عليه اليمنيون في الماضي.
واليوم، في ذكرى الاستقلال من الاحتلال البريطاني، وهو يوم مفصلي في تاريخ الشعب اليمني، تصطف فصائل المرتزقة إلى جانب هيمنة جديدة تُمارَس عبر وكلاء إقليميين، في مفارقة تكشف حجم الارتهان السياسي. وتقتضي المناسبة استحضار جوهرها الحقيقي، بوصفها محطة للتحرر ورفض التبعية، وتجديد الوعي الشعبي بمواجهة كل أشكال الهيمنة الخارجية، والوقوف في وجه أدواتها المحلية، كما فعل اليمنيون بالأمس حين انتزعوا استقلالهم بإرادة وطنية جامعة.
وبالنظر إلى واقع اليمن اليوم، تبدو حكومة صنعاء، التي احتضنت في الماضي الحركة التحررية المناهضة للاستعمار البريطاني، الجهة الأجدر بحمل هذا الإرث السياسي والتاريخي، عبر إعادة احتضان مشروع تحرري جديد في مواجهة هيمنة واشنطن ووكلائها في اليمن والمنطقة، وبما ينسجم مع المسار الوطني الرافض للاحتلال الغربي وسياساته وأدواته الداخلية والإقليمي، والتي تذكرنا بحال السلاطين والمشايخ في إمارات ما كان يسمى بالجنوب العربي في زمن الاحتلال الأول.
وليس في اليمن، طرفٌ حرّ بالمعنى الحقيقي سوى ذلك الذي عبّر عن جوهر الموقف الشعبي ومصالحه الأصيلة، وثبت في مواجهة الهيمنة الخارجية دون ارتهان أو مساومة. ويُنظر إلى انتصاره بوصفه امتدادًا لانتصار أوسع للأمة الإسلامية، وللقضية الفلسطينية على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، تبرز حكومة صنعاء ومعها رجال الرجال الذين قدّموا تضحيات جسام دفاعًا عن كرامة اليمن وسيادته، ورفضوا الخضوع ومسارات التبعية، وفرضوا معادلة سياسية جديدة كسرت هيبة الوصاية الإقليمية، ومرغوا أنف آل سعود وآل زايد في التراب، وهو الأمر الذي لن يجرؤ على مثله إلا الصادقون في دينهم الأحرار في دنياهم، وليس في صفوف المرتزقة من يداني أفعالهم ولو بالكلام، وسنوات العدوان تشهد على صدق الرجال وزيف الأطراف التي حكمت البلاد قبل ثورة 21 سبتمبر المجيدة، وهي المتداد الطبيعي لنزعة الشعب اليمني التحررية ولثورة 14 أكتوبر وللثلاثين من نوفمبر، والميادين في البر والبحر تشهد بذلك.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

