الدكتور عبدالرحمن المختار*

اتَّسَعَ مسرحُ جريمةِ الإبادة الجماعية المقترَفة في قطاعِ غزةَ ليشمِلَ معظمَ النطاقِ الجغرافي للكُرة الأرضية، ومن لم يقترفْ أفعال جريمة الإبادة الجماعية بشكل مباشر شارك فيها بصور أُخرى لا تقلُّ في جسامتها عن اقتراف الفعل المباشر للجريمة؛

فمن قَـدَّمَ لفاعلِها المباشِرِ أدواتِ اقترافِها بمقابل أَو بدون مقابل فهو شريكٌ كاملٌ فيها، ومَن قَـدَّمَ لمقترِفِ أفعالها المباشرة المالَ والحمايةَ الميدانية والمواقفَ السياسية لإجهاض أية إجراءات لمنع الجريمة وقمعِ المباشِرِ لأفعالها فهو شريكٌ كاملٌ في اقترافِها، ومَن تآمَرَ وساعد وساند مقترفَها بأية صورةٍ من الصور فهو شريكٌ كاملٌ في اقترافها.

ورغم أن مسرحَ جريمة غزةَ بكل هذا الاتساع، ورغمَ تسخيرِ قوى الإجرام ماكينةً إعلاميةً هائلةً ناطقةً بكافة اللغات مهمتُها صرفُ الأنظار عن جريمة الإبادة الجماعية، وتهيئةُ الرأي العام العالمي لتقبُّلِ ما بعدَ انتهاء فصول هذه الجريمة؛ وباعتبار أن الترويج لما جرى ويجري في قطاع غزة وامتداداتِه المكانية هو حالةُ حرب، وأن هذه الحالة يتحمل مسؤولية نتائجها المتسبِّبُ بها، وتتكرّرُ تصريحاتُ أكابر مجرمي الشيطان الأكبر، بأنه لولا السابعُ من أُكتوبر لَمَا كان لهذه الحربِ أن تستعرَ أَو أن تستمرَّ! وهكذا جرى ويجري توصيفُ الحالة في غزةَ بأنها حالة حرب وأن الكيان المجرم إنما يستخدمُ حقَّ الدفاع عن النفس! وهذا التوصيفُ جاء منذ البداية على لسانِ رؤساء دول وحكوماتِ القوى الاستعمارية الغربية!

وسايرت الأنظمةُ العربية القوى الاستعماريةَ الغربية في توصيفها لما جرى ويجري في قطاعِ غزةَ بأنه حالةُ حرب، وجسَّدت الماكينةُ الإعلامية الناطقةُ بالعربية هذا التوجُّـهَ؛ فشبكةُ "الجزيرة" الإعلامية عناوينُها الرئيسية (الحربُ الإسرائيلية على غزة) وعناوينُ الفضائيات الخليجية وغيرها من الوسائل الإعلامية (حربُ غزة) وكذلك الحالُ بالنسبة لغير هذه الفضائيات، يجري الترويجُ للحالة في غزة بقصدٍ وبغير قصد بأنها حالة حرب! ولم يقتصر هذا الترويجُ على الدول الغربية والعربية بل شمل حتى المنظمةَ الدولية، التي يذهبُ القائمون عليها لذات الترويج الذي سارت عليه القوى الاستعمارية الغربية وسايرتها الدولُ العربية!

فلماذا هذا التجاهُلُ من جانب المنظَّمة الدولية وفروعِها ومؤسّساتِها المختلفةِ لجريمة الإبادة الجماعية؟ ولماذا سايرت الأنظمةُ العربية القوى الاستعماريةَ الغربيةَ والكَيانَ الصهيوني المجرمَ في الترويج للحالة في غزة بأنها حالةُ حرب؟

بالنسبة لمنظَّمةِ الأمم المتحدة وفروعِها ومؤسّساتِها المختلفةِ يرجِعُ السببُ في تجاهُلِها جريمةَ الإبادة الجماعية في عزةَ، وترويجَها بدلًا عن ذلك للجريمة بأنها حالةُ حرب إلى رغبة هذه المنظمةِ وفروعها ومؤسّساتها في التنصُّلِ من واجباتها القانونية التي يقعُ على عاتقها الالتزامُ بها، وَفْــقًا لميثاقِ الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي؛ فقد سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن أعلنت بشكل صريح وقبل ولادة دولة الكيان الصهيوني أن (الإبادةَ الجماعية جريمةٌ بمقتضى القانون الدولي، وأن هذه الجريمةَ تتعارَضُ مع روحِ الأمم المتحدة وأهدافِها ويدينُها العالَمُ المتمدن) وسبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن اعترفت بأن (الإبادةَ الجماعيةَ قد ألحقت في جميعِ عُصُورِ التاريخِ خسائرَ جسيمةً بالإنسانية؛ وإيمانًا منها بأن تحريرَ البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلَّبُ التعاوُنَ الدولي)!

ولأَنَّ واجبَ تحرير الإنسانية من جريمة الإبادة الجماعية الموصوفة -وَفْــقًا لتعبير الجمعية العامة للأمم المتحدة- بأنها (آفة بغيضة) يقع على عاتق منظمة الأمم المتحدة بوصفها الجهةَ الملزَمةَ بمنعِ حدوثِ أفعال الإبادة الجماعية وقمع مقترِفها في حالِ حدوثِها، من خلال ما خوَّلَها ميثاقُها والقانونُ الدولي من آلياتٍ ووسائلَ تكفَلُ -في حال استخدامِها- مَنْعَ جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مقترفها، لكن الأمم المتحدة -ولكي تتنصَّلَ عن واجباتها القانونية والإنسانية تجاه مَن تعرَّضوا للإبادة الجماعية في قطاع غزة- ذهبت هذه المنظمةُ إلى توصيف الحالة في غزة بأنها حالة حرب، وغَضَّت الطرفَ عن أفعال جريمة الإبادة الجماعية المُستمرَّة والمتتابِعَة!

وبتنصُّلِها عن واجباتها القانونية والإنسانية؛ أصبحت المنظمةُ الدوليةُ شريكًا في جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزةَ؛ باعتبَار أنَّ للفعل الإجرامي صورتَينِ:- الصورة الإيجابية التي يجسِّدُها الفعلُ المباشِرُ لاقتراف الجريمة أَو المشاركةُ بأي شكل وبأي مستوى في اقترافه، والصورة السلبية للفعلِ الإجرامي التي تتجسَّدُ في امتناع مَن أسند إليه القانونُ مهمةَ الحماية ومهمةَ المنع للجريمة والقمع والمعاقَبة لمقترِفيها، وهذه الصورة السلبية تتحقّقُ في جانب منظمة الأمم المتحدة؛ باعتبَار أن ميثاقَها والقانون الدولي قد أوجب عليها منعَ جريمة الإبادة الجماعية وقمعَ ومعاقبة مقترفيها، وبتنصُّلِها عن هذا الواجب تكونُ منظمةُ الأمم المتحدة شريكةً في جريمةِ الإبادة الجماعية بصورتها السلبية!

وما ينطبق على منظمة الأمم المتحدة بصورة عامة ينطبِقُ على الدول الأعضاءِ فيها بصورةٍ خَاصَّة، والتي تعد شريكةً في جريمة الإبادة، وَفْــقًا للصورة السلبية لفعلها الإجرامي المتمثلة في التنصل أَو الامتناع عن الواجبات القانونية والإنسانية، وينطبق هذا التوصيف بصورة أولى على الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي!

وبالنسبة للأنظمة العربية -سواءٌ تلك الشريكةُ بصورٍ مختلفة في جريمة الإبادة الجماعية، أَو تلك التي تنصَّلت عن واجباتها القانونية والأخلاقية والإنسانية- فهذه الدولُ ومنها (الجزائرُ وتونس والمغرب وليبيا والأردن) موقِّعةٌ على اتّفاقيةِ منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وهذه الاتّفاقيةُ تُلْزِمُ الدولَ الأطرافَ فيها بعدد من الالتزاماتٍ، منها إثارةُ مسؤولية الدولة أَو الدول المقترِفة لجريمة الإبادة الجماعية أمام المؤسّسات الدولية المختصَّة كما فعلت دولة (جنوب إفريقيا)، والدولُ العربية الأطرافُ في اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنصَّلت عن واجباتها القانونية، وكان عليها أن تتصرفَ على أقلِّ تقدير كما تصرَّفت دولةُ (جنوب إفريقيا) وأن تتقدَّمَ بدعوى تُثِيرُ بموجبها مسؤوليةَ الكيان الصهيوني عن جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وكذلك إثارةُ مسؤولية القوى الغربية الشريكة في الجريمة، لكن هذه الفئة من الدول العربية؛ -وبسببِ خوفِها من كيان الاحتلال الصهيوني والقوى الاستعمارية الغربية آثَرت الصمتَ وفضَّلت مسايرةَ القوى الإجرامية الغربية في وصفها لما جرى ويجري في قطاع غزة بأنه حالة حرب؛ وبطبيعة الحال فَــإنَّه الآثارَ القانونيةَ المترتبةَ على حالة الحرب تختلفُ تمامًا عن الآثارِ القانونيةِ المترتِّبة على جريمة الإبادة الجماعية!، ولأَنَّ حالةَ الحرب تخدُمُ الموقفَ الضعيفَ والمتخاذِلَ للدول العربية فقد تمسَّكت بهذا التوصيف لتتنصَّلَ عن واجباتِها القانونيةِ والإنسانية.

وبالنسبة للدول العربية الشريكة في جريمة الإبادة الجماعية، سواء بالتآمر (مصر وقطر والإمارات) أَو بالإسناد وتقديم الدعم اللوجستي والاقتصادي (السعوديّة والأردن والإمارات والبحرين والكويت) فهذه الدولُ تدركُ أن فعلَها المسانِدَ لكيان الإجرامِ الصهيوني يندرجُ ضمنَ أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وَفْــقًا لنصوص الفقرات (ب، ج، هـ) من المادَّة الثالثة من اتّفاقية منعِ جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها؛ ولإدراك هذه الدول حجمَ تورُّطِها في الشراكة في جريمة الإبادة الجماعية فليس أمامَها سوى السير في ذات الاتّجاه الذي سارت فيه القوى الاستعماريةُ الإجراميةُ الصهيوغربية في توصيفها للحالة في غزة بأنها حالة حرب؛ باعتبَار أن الترويجَ لحالة الحرب من جانبِ الدول العربية الشريكة في الجريمة ينأى بها -حسب اعتقادها- عن مسؤولية الشراكة في الجريمة ويُبعِدُ عنها عارَ هذه الجريمة؛ فالمسؤولية في حالة الحرب يتحمِّلُها المتسبِّبُ فيها، ولا مشكلةَ لدى هذه الدول في تحميلِ حماس المسؤوليةَ عن حالة الحرب التي تروِّجُ لها هذه الدول.

وتهدفُ القوى الاستعمارية الغربية -وعلى رأسِها الإدارةُ الأمريكية- من الترويج للحالة في غزة بأنها حالة حرب إلى التهرُّبِ من التبعات القانونية الناتجةِ عن شراكتها في جريمة الإبادة الجماعية؛ فهذه الدول تدرك تمامًا أنها متورطة في الجريمة ولن يزيحَ عنها نتائجَ هذا التورُّطِ إلَّا تحميلُ حماس مسؤوليةَ التسبُّبِ في النزاع المسلح، وهذه القوى تدركُ أنه لن يتم لها ذلك إلَّا بتكريسِ حالة الحرب في ذهنية الرأي العام تهيئتِه لتقبُّلِ النتائجِ المترتبة عليها، وأهمُّ هذه النتائج هو تحميلُ المتسبِّبِ في حالة الحرب كُلَّ ما ترتَّبَ عليها من آثارٍ مدمِّـرة، وهذه القوى الإجرامية الاستعمارية تُضاعِفُ جُهُودَها في التزييف والتضليل لصرف الأنظار عن جريمة الإبادة الجماعية؛ باعتبَار أن هذه القوى هي من صاغ نصوصَ اتّفاقية منعِ الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والتي نصَّت المادةُ الأولى منها (تصادق الأطرافُ المتعاقدةُ على أنَّ الإبادةَ الجماعية -سواء ارتُكبت أَيَّـامَ السلم أَو أثناءَ الحرب- هي جريمةٌ بمقتضى القانون الدولي، وتتعهَّدُ بمنعها والمعاقَبة عليها)، والواضحُ أن نَصَّ هذه المادة قد حدّد آليتَينِ:- الأولى: الالتزامُ بمنع جريمة الإبادة الجماعية، والثانية: المعاقبة عليها من خلال قمع مقترِفها؛ ولأَنَّ المادَّةَ الثالثةَ من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تؤكّـدُ بما لا يدعُ مجالًا للشك تورُّطَ القوى الاستعمارية الغربية بالشراكة في أفعال جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ ولذلك فهذه القوى تعملُ جاهدةً -من خلال ماكينتها الإعلامية الضخمة- على زحزحة المسؤولية عن كاهلها والناتجة عن شراكتها في جريمة الإبادة الجماعية، وطمس آثارها والابتعاد عن عارِها الذي سيلاحِقُ هذه القوى على مدى التاريخِ الإنساني، لكن هيهاتَ لهذه القوى أن تمحوَ عن نفسِها عارَ هذه الجريمة، وهيهاتَ للدول العربية، للمنظمة الدولية، لجميع أعضائها ذلك.

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب
* المسيرة نت