الوطنية الزائفة.. الوجه الحديث لسياسة "فرّق تسد"
السياسية || محمد محسن الجوهري*
بعيدًا عن الموقف الديني الصريح من "الوطنية"، فإن الواقع المعاش يكشف أن هذه الدعوة ليست إلا أداة لتنفيذ سياسة استعمارية قديمة عُرفت بشعار "فرّق تسد"، تلك التي تقوم على تمزيق الأمة إلى كيانات متصارعة تتغنّى كلٌ منها بـ"وطنيتها"، بينما يُدار الجميع من خلف الستار لخدمة العدو نفسه.
ففي غزة اليوم، نرى التجسيد الحي لهذه السياسة، حيث انكفأ كل طرفٍ على ذاته بذريعة الوطنية، وكأن فلسطين لا تعني أحدًا خارج حدودها، رغم أن الأنظمة المتذرعة بذلك ضالعة في دعم العدو الصهيوني، ولو تعارض ذلك مع وطنيتها المزعومة.
مصر، البلد العربي الأهم في المعادلة، أصبحت خارجها تمامًا، وقد تخلّت عن غزة بحجة أنها أرض "غير مصرية". وبدلًا من دعم القضية الفلسطينية، ينشغل إعلامها بتضخيم الذات القومية، وبأن اليهود جزء أصيل من "الهوية الفرعونية" المزعومة، في مشهد يؤكد نجاح مشروع "فرّق تسد" في تشويه الهوية وتوجيه البوصلة. وهذه نتيجة متوقعة حين يتولّى الصهاينة أمر الثقافة والتربية في أي قُطرٍ من الأقطار.
أما الأردن، فهي كيان مصطنع بموجب اتفاقية سايكس- بيكو، قُطعت من جغرافيا فلسطين لتكون حاجزًا جغرافيًا ونفسيًا بين المسلمين وقضيتهم، يحكمها نظام عميل يمارس وظيفته الأمنية لحماية الكيان. وقد رأينا مؤخّرًا كيف استمات النظام الأردني في اعتراض الصواريخ والطائرات الإيرانية، والحيلولة دون وصولها إلى قلب الكيان الصهيوني، في خيانة لا تفسّرها حتى ذريعة "النأي بالنفس".
وفي لبنان، لا يختلف المشهد كثيرًا. الوطن هناك أيضًا صنيعة التقسيم الاستعماري، وتتكالب فيه الفصائل السياسية ضد حزب الله لا لسبب إلا لأنه يحمل همّ تحرير فلسطين. الكل يتوحّد لحماية أمن الكيان العبري، حتى لو كان ذلك على حساب "الوطنية" نفسها. وهكذا تُستعمل الوطنية مرة أخرى كقناع زائف، لا يُرفع إلا إذا كان في مصلحة "إسرائيل".
أما سورية، فالوضع فيها أغرب. إذ قامت ثورة دينية ضد نظام علماني يرفع شعار الوطنية، ثم ما لبثت الجماعات التي شاركت في الثورة تحت راية دينية عابرة للحدود أن تبنّت خطاب الوطنية لتبرير تخلّيها عن القضية الفلسطينية، معتبرة أن "إسرائيل" في سورية، كما في لبنان، "خارج الاعتبارات الوطنية"، لتثبت من حيث لا تشعر أن المشروع كله خُطّ بعناية ضمن سياسة "فرّق تسد".
وفي دول الخليج، تتجلّى هذه السياسة بأوضح صورها؛ فالحكّام الأعراب ينفقون ثروات شعوبهم لحماية الكيان الصهيوني، ويسهمون في تمزيق العالم الإسلامي، متذرعين بـ"الوطنية" حينًا، وبـ"السيادة" حينًا آخر، في حين لا يعرفون من الوطنية سوى اضطهاد العمالة المسلمة والتنكيل بها. بل إن أنظمتهم باتت تجاهر بولائها للصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم. وصدق الله العظيم إذ قال: "الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا".
وهكذا، نجد أن "الوطنية" اليوم لم تعد تعبيرًا عن حب الأرض أو الشعب، بل أصبحت أداة استعمارية ناعمة، تُستخدم لتفتيت الأمة، وتكريس الخضوع، وتنفيذ أخطر سياسات الهيمنة، تحت غطاء شعارات جوفاء ظاهرها الحرص على الأوطان، وباطنها خدمة المشروع الصهيوني.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب