السياسية:

في الحروب الحديثة، لا تنتصر الجيوش بالعتاد وحده، بل بإرادة الجنود ومعنوياتهم. وعندما تنهار هذه الإرادة، يصبح السلاح بلا جدوى. ما نشهده اليوم في "الجيش الإسرائيلي" ليس مجرد سلسلة من الانتحارات الفردية، بل مؤشر خطير على انهيار عقيدة قتالية بُنيت على التفوق الكمي والتكنولوجي، دون أن تُحصّن نفسيًا أو أخلاقيًا لمواجهة حرب تستنزف الروح قبل الجسد.

السلاح لا يقاتل وحده

لطالما رُوّج "للجيش الإسرائيلي" على أنه من بين "الأكثر تطورًا وانضباطًا" في الشرق الأوسط. ولكن ما تكشفه حرب غزة الممتدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى جانب التوترات على جبهة لبنان، هو تفكك البنية النفسية لهذا الجيش. فمع ارتفاع عدد حالات الانتحار في صفوف الجنود إلى أكثر من 43 حالة، بحسب ما كشفه موقع "والا" "الإسرائيلي"، يظهر بشكل جليّ أن التفوق التكنولوجي واللوجستي لا يستطيع تعويض غياب الدافع الأخلاقي والمعنوي. هنا تنهار الرواية التي تقول إن الصهيونية قادرة على بناء جيش لا يُقهَر.

الرعب الذي لا يقال: معاناة الجندي الصهيوني في الميدان

الحديث عن "الجنود الإسرائيليين" منتحرين بعد مشاهداتهم الفظيعة في غزة ولبنان، يشير إلى مشهد مختلف تمامًا عن الدعاية الرسمية. جندي ينقل الجثث المحروقة والمقطّعة، يشكو من "رائحة الموت"، يتحدث عن أصدقاء قُتلوا في 7 أكتوبر، ينزف من الداخل لشهور دون احتواء نفسي حقيقي، ثم ينهي حياته. هذه ليست حادثة فردية، بل واحدة من سلسلة متزايدة من الانهيارات.

والأهم من ذلك، أن المؤسسة العسكرية ترفض حتى منحه دفنًا عسكريًا لائقًا. لماذا؟ لأن الاعتراف بانتحاره، هو اعتراف بسقوط العقيدة. "إسرائيل" تبني أسطورتها على مفهوم "الردع"، والجندي المنتحر هو نقيض هذه الأسطورة، بل هو الصدع الذي يظهر أن هذا الردع قد أصبح هشًا، إن لم يكن زائفًا.

حرب غزة: كشف عجز المشروع الصهيوني في عمقه النفسي

لا تكمن أزمة "الجيش الإسرائيلي" في العتاد، بل في ما هو أعمق: المبرر الأخلاقي للقتال. في الحروب السابقة، وُظّف مفهوم "الدفاع عن الوطن" و"الحرب على الإرهاب" كمحرّكين نفسيين للجنود، لكن ماذا بعد أن تتحول الحرب إلى مجازر يومية، يُذبح فيها المدنيون بالجملة، وتُقصف المستشفيات ومراكز الإيواء، ويُجَوّع السكان عمدًا؟

"الجنود الإسرائيليون" أنفسهم باتوا يدركون أنهم ليسوا في مهمة "تحييد تهديدات أمنية"، بل في مهمة قتل جماعي موجه ضد شعب محاصر ومجرد من الحد الأدنى من مقومات الحياة. هذا الإدراك لا يمكن محوه مهما كانت آلة البروباغندا فعالة، لأنه يُختَبر يوميًا في الميدان، ويُلصق بالجندي كوصمة عار لا تزول.

عامل الزمن وانهيار "الرسالة الوطنية"

هنا يجب الإشارة إلى مسألة مركزية في أي حرب طويلة: الزمن. حين تطول المعركة دون أهداف واضحة، تنهار معنويات المقاتلين. فالجنود ليسوا روبوتات؛ يحتاجون لمعنى، لهدف، لمبرر. وما نشهده اليوم هو حرب بلا أفق، بلا نصر، بلا وضوح. في المقابل، لدى الطرف الفلسطيني –رغم الحصار والفقر والدمار– ما يفتقده "الجندي الإسرائيلي": قضية.

فالمقاتل الفلسطيني يقاتل لأجل وطن، حرية، أهل، وهوية. بينما "الجندي الإسرائيلي"، حين يُسحب من تل أبيب إلى جحيم غزة، يجد نفسه يسير في شوارع مدمرة، يطارد أشباحًا من الأنفاق، يواجه مقاومة لا تُهزَم نفسيًا رغم القصف الكثيف. عند هذه اللحظة، تتحول الخدمة العسكرية إلى كابوس لا يحمل أي معنى سوى البقاء على قيد الحياة، أو الموت مجانًا.

انتحار الجنود: ليس عارضًا بل نتيجة لبنية مشوهة

الانتحار في "الجيش الإسرائيلي" ليس "عارضًا نفسيًا" عابرًا كما يُروّج، بل نتيجة حتمية لبنية عقائدية مشوهة. فالمجند الشاب، الذي كُبّر دماغه على "أخلاقيات الجيش الإسرائيلي"، ينهار عندما يرى بأمّ عينه أن ما يمارسه لا صلة له بالأخلاق ولا بالقانون، بل بالإبادة.

ثمّ ماذا يعني أن يرفض الجيش دفن الجنود المنتحرين في مراسم عسكرية؟ إنها محاولة بائسة للفصل بين الجندي "الجيد" الذي يموت في المعركة، والجندي "المنهار" الذي ينتحر، وكأن الانتحار ليس هو الوجه الآخر للموت في معركة خاسرة معنويًا.

عقيدة مفقودة في وجه مقاومة مؤمنة

يتمتع "الجيش الإسرائيلي" بقدرات هائلة: طائرات F35، أقمار تجسس، دعم لوجستي لا ينقطع، قدرة على استبدال الجنود واستراحتهم بين الجولات. ولكن ماذا ينفع كل ذلك إذا كان المقاتل في الطرف المقابل، وهو في خندقه المحاصر، يواجه الموت بروح لا تتزعزع؟

إن التفوق العسكري لا ينتج الانتصار في حد ذاته. وكما أظهر التاريخ في فيتنام، الجزائر، ولبنان والعراق، فإن الجنود الذين لا يؤمنون بسبب قتالهم، يُهزمون حتى وهم منتصرون تقنيًا. والجنود "الإسرائيليون"، اليوم، لا يؤمنون. هذا هو جوهر المسألة.

عندما تنتصر المقاومة نفسيًا: ميزان القوة يتغير

ما يحصل اليوم في غزة هو صراع على المعنويات بقدر ما هو صراع على الأرض. وكل "جندي إسرائيلي" ينهار نفسيًا هو ضربة معنوية "لإسرائيل" تفوق بكثير سقوط دبابة أو طائرة. لأن الحروب لا تُحسم فقط بالسلاح، بل بالقدرة على تحمّل الضغط، بالصبر، بالإيمان بالقضية.

والمقاومة الفلسطينية –رغم الدمار والجوع– تحافظ على زخمها. كيف؟ لأن مشروعها غير قائم على الربح والخسارة اللحظيين، بل على مراكمة الردع، وتآكل إرادة العدو، وفضح جرائمه أمام العالم. هذه هي المعركة التي تخسرها "إسرائيل" يوميًا، أمام الكاميرات، وأمام ضمائر جنودها.

لماذا اقتربت "إسرائيل" من التفاوض السريع وبأي ثمن؟

إن استمرار هذا التآكل في المعنويات، وتزايدت أعداد الجنود المنتحرين، وبقاء المقاومة الفلسطينية قادرة على الصمود والمباغتة، فإن "إسرائيل" –مهما كانت عنجهيتها– ستُجبر على التفاوض. ليس لأن القيادة السياسية تريد، بل لأن الجنود لن يعودوا قادرين على القتال.

إن "المعنويات تقاتل إلى جانب السلاح"، وحين تغيب الأولى، لا ينفع الثاني. لقد وصلت "إسرائيل" إلى لحظة الحقيقة: لا يمكنك قصف المقاومة حتى الموت، ولا يمكنك إرغام الجنود على مواصلة الحرب وهم ينهارون من الداخل.

ربما سيتطلب الأمر مزيدًا من الوقت، وربما المزيد من الضحايا، ولكن مسار الحرب بات واضحًا: التفوق المادي وحده لم يعد كافيًا. ومن ينتصر في ميدان النفس، هو الذي يكتب الفصل الأخير.

* المادة نقلت حرفيا من الخنادق ـ الكاتب: د.محمد الأيوبي