السياسية || محمد محسن الجوهري*

في التاريخ الحديث للمنطقة، لم يكن الشاه محمد رضا بهلوي مجرد حاكم لإيران، بل كان تجسيدًا لتحالف مركّب بين النظام الإيراني قبل الثورة والغرب الاستعماري، وعلى رأسه الولايات المتحدة. ومع أن الشاه كان يُجاهر بانتمائه للمذهب الشيعي، إلا أن سياساته وأجندته لم تكن يومًا امتدادًا لأي مشروع إسلامي أو حتى إقليمي مستقل، بل كانت جزءًا من المنظومة الدولية التي تحفظ أمن الكيان الصهيوني وتُحاصر كل محاولة لتحرير الإرادة العربية.

المفارقة العجيبة أن الشاه كان يتعامل مع معظم الدول العربية، خصوصًا الخليجية منها، بنظرة استعلائية مقيتة، بل كان يحتقر ملوكها وأمرائها سرًا وعلانية. كانت طهران الشاه تعتبر نفسها "شرطي الخليج"، وتتعامل مع جيرانها باعتبارهم تابعين لا يملكون قرارهم، ومجرد أدوات في خدمة المصالح الأمريكية. ورغم ذلك، لم تواجه إيران الشاه أي عزلة عربية أو موقف رسمي يستنكر تعاليه، بل ظلت تحظى بعلاقات اقتصادية وسياسية مع معظم الدول الخليجية، وكان يُستقبل رسميًا بكل حفاوة، بل ويُشاد بـ"تقدمه".
أما السبب، فهو أوضح من أن يُخفى: الشاه لم يكن يُشكّل أي خطر على "إسرائيل". بل على العكس، كانت العلاقات بين نظامه وتل أبيب في أوجها، شراكات أمنية وتجارية وزيارات سرية وتنسيق استخباري. كانت طهران في زمن الشاه من أوائل الدول الإسلامية التي اعترفت فعليًا بـ"إسرائيل" وإن لم تعلن ذلك رسميًا. بل استقبلت شركات إسرائيلية في عمق إيران، ووفّرت لها موطئ قدم في الخليج، في وقت كانت فيه الدول العربية ترفع شعار "اللاءات الثلاث" بعد نكسة 1967.

ولأن العداء للصهيونية لم يكن ضمن قاموس الشاه، فقد حاز على رضا الغرب، ورضا الأنظمة التابعة له، وظل يمارس استعلاءه على العرب دون أن يتعرض لمقاطعة أو عتاب. لم يكن يُلام على صمته عن فلسطين، ولا يُسأل عن استقباله للمسؤولين الإسرائيليين، طالما أنه لم يُهدد الكيان الغاصب، ولم يُحرّض شعبه أو جيشه على تحرير الأرض.

والأدهى من ذلك، أن بعض الأنظمة الخليجية كانت تتعامل معه باعتباره "الدرع الواقي" ضد المدّ القومي أو الإسلامي، بل ورأت في إيران الشاه شريكًا استراتيجيًا لضمان بقاء الوضع القائم. لم تكن المشكلة لديهم في احتقاره لهم، بل كانت مشكلتهم الحقيقية مع أي خطاب تحرري يعادي "إسرائيل" أو يطالب باستقلال القرار العربي.

لكن المفارقة الكبرى لم تتجلَّ إلا بعد سقوط الشاه ونجاح الثورة الإسلامية عام 1979، حين تغيّرت بوصلة إيران بالكامل، وتحوّلت من حليف صامت لـ"إسرائيل" إلى خصم صريح يرفع راية العداء للصهيونية ويدعم القضية الفلسطينية في كل المحافل. منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة، أُغلِقت السفارة الإسرائيلية في طهران، وسُلِّمت مفاتيحها لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مشهد لم يجرؤ عليه أي نظام عربي. ومع هذا التحول الجذري، لم يفرح العرب الرسميون بسقوط نظام الشاه، بل سارع كثير منهم إلى اتخاذ موقف عدائي من النظام الإسلامي الوليد، لا لشيء إلا لأنه كسر المحرمات، وفتح باب الدعم العلني للمقاومة الفلسطينية، وتجرأ على مواجهة "إسرائيل" علنًا. فجأة، أصبح ما كان مقبولًا في زمن الشاه مرفوضًا بعد الثورة، فقط لأن البوصلة تغيّرت، ولأن إيران الجديدة لم تعد جزءًا من منظومة الصمت والتطبيع، بل باتت رأس حربة في جبهة الرفض والمقاومة.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب