محمد محسن الجوهري*

لقد عمل المشروع اليهودي، منذ بواكير ظهوره، على إعادة تشكيل الوعي العالمي عبر روايات ثقافية ولغوية تُمنح قدسية تاريخية زائفة، وذلك بهدف تهيئة الأرضية الفكرية لإقامة كيانه الاستعماري في فلسطين. لم تكن هذه الروايات نابعة من بحث علمي موضوعي، بل من هندسة معرفية موجّهة توظّف نصوصًا توراتية محرّفة وتستند إلى قراءات انتقائية للتاريخ.

ولتحقيق هذا الهدف، اعتمدت المؤسسات الصهيونية على شبكة واسعة من المستشرقين والباحثين المرتبطين بالمراكز الغربية، الذين سعوا لإدخال تلك الروايات في المناهج الأكاديمية والثقافية العربية، حتى تبدو وكأنها حقائق مسلّم بها.

ومن أبرز هذه الادعاءات، خرافة اللغة "العبرية" بوصفها لغة قديمة ومستقلة، تمثل شعباً ضارباً في عمق التاريخ. غير أن حقائق اللسانيات المقارنة تُسقط هذا الوهم سريعاً. فأقدم ما يمكن تسميته اليوم بالعبرية لا يتجاوز القرن التاسع الميلادي، وهي فترة حديثة جداً في علم تاريخ اللغات، بينما تعود النقوش العربية الشمالية المتعددة إلى قرون طويلة قبل الميلاد، ما يدلّ على أن العربية كانت حاضرة وفاعلة قبل نشأة الشكل العبري الحالي بأكثر من ألف سنة.

أما الفقر المعجمي الشديد في العبرية المعاصرة، فلا يترك مجالاً للشك في أنها لغة مُعادة الإحياء أكثر من كونها لغة متوارثة تاريخياً، فاللسان العبري المعاصر يملك نحو 2500 جذر لغوي فقط، أي أقل من 3% من ثراء العربية التي تتجاوز جذورها 90 ألف جذر، وهو ما يؤكد أن العبرية لغة مصطنعة لا لغة تطورٍ طبيعي ومستمر.

وإضافة إلى فقر المفردات، فإن الأغلب منها ليست سوى كلمات عربية جرى تحوير نطقها لتمييزها شكلياً عن أصلها. ويتأكد ذلك في عدم قدرة العبرية على الاشتقاق والتوليد اللغوي كما تفعل العربية، التي تبدو كياناً لغوياً حياً ومتحركاً، مقابل لغة متشنجة لا تكاد تتحرر من قوالبها الجامدة.

وحتى مصطلح "السامية" فلم يرد في أي مدونة تاريخية قديمة، وقد ظهر أول مرة عام 1780م على يد مدرسة غوتنغن الألمانية المتخصصة في كتابة التاريخ حسب الرواية اليهودية، بهدف صياغة تقسيم عنصري للشعوب العربية، وإسناد "أصل تاريخي موحّد" لليهود يمكّنهم من الادعاء بالانتماء القديم لأرض فلسطين.

وقد أقرّ كبار اللسانيين المعاصرين أن هذا المصطلح غير علمي، ولاصطناعه دوافع سياسية وثقافية هدفها خلق روابط مصطنعة بين مجموعات سكانية متباعدة، ومنح اليهود سردية قومية جاهزة تعزز ادعاءهم بفلسطين. أما ما ورد في النصوص القديمة من كلمة "سام" أو "سامية"، فقد كان يشير في الواقع إلى بلاد الشام، لا إلى تقسيمٍ عرقيّ أو لغوي خاص.

وإذا تصفحنا التاريخ بعين الفاحص الدقيق سنجد أن المشروع الصهيوني بنى هويته الثقافية على منطلقات واهية، لكن المشكلة الأكبر أن هذه الأساطير تسرّبت إلى الوعي العربي والإسلامي بفعل تراخٍ معرفي، وتقصير في الدفاع عن التاريخ الحقيقي للمنطقة. فالصراع أولاً صراع على من يملك الشرعية الحضارية على أرض فلسطين. ولهذا فإن كشف زيف الدعائم الثقافية للصهيونية، هو خطوة مكافئة لكشف زيفها السياسي والعسكري.

إن ما يسمى "الثقافة العبرية" مجرد واجهة مصنوعة لمشروع استيطاني لا يستطيع الوقوف على قدميه في ميدان العلم، بل يعتمد على القوة والدعاية وتزوير التاريخ. وحين تُعرَض هذه الادعاءات على ميزان البحث اللساني والتاريخي، تتهاوى سريعاً لتعود فلسطين إلى هويتها الحقيقية: أرضاً عربية، بلغتها وشعبها وتاريخها، مهما جرت محاولة تغطيتها بأقنعة مزيّفة أو تسمية دخيلة.

ولمن أراد أن يتوسع أكثر حول التاريخ الموهوم للعبرية والتاريخ السامي فعليه بمراجعة كتب الباحث السوري الدكتور محمد بهجت القبيسي، والذي أثبت في كتبه ومحاضراته الموثقة بأن كثيراً من الدراسات الغربية اعتمدت على الروايات التوراتية التي لم تثبتها الأدلة الأثرية، معتمدين على تفنيده لها بالنقوش والأحافير التاريخية بوصفها مصادر علمية دقيقة لقراءة تاريخ العرب.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب