حين يلتقي الإيمانُ بالعروبة ترتسمُ ملامح الوعي الجديد للأُمَّـة
مبارك حزام العسالي*
في زمنٍ تتكاثرُ فيه مشاريع التفكيك والهيمنة، جاء اجتماع المؤتمر القومي العربي في بيروت ليعيد للأُمَّـة صوتها الجمعي المفقود، ويؤكّـد أن اللقاء بين الإسلاميين والقوميين لم يعد ترفًا فكريًّا أَو تقاربًا شكليًّا، بل ضرورة مصيرية تمليها تحديات المرحلة وحجم العدوان على الأُمَّــة من فلسطين إلى اليمن، ومن لبنان إلى العراق وسوريا.
إن اجتماع التيارَينِ اللذَينِ مثّلا لعقودٍ وجهَين مختلفين للمشروع العربي، يشكّلُ تحوّلًا في الوعي الجمعي، وتأكيدًا على أن البُوصلة الحقيقية للأُمَّـة لا تزال فلسطين، وأن العدوّ الحقيقي هو الكيان الصهيوني ومن يقف خلفه من قوى الاستكبار العالمي.
في هذا السياق جاءت كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي لتعزّز هذا الوعي الجديد، وتضعه في سياق عملي ومسؤول.
فقد أكّـد السيد القائد أن المؤتمر القومي العربي له أهميته الكبرى في ترسيخ التمسك بالثوابت تجاه ما يستهدف الأُمَّــة من مؤامرات وعدوان، مُشيرًا إلى أن أعداء الأُمَّــة جاهروا بأهدافهم الحقيقية العدوانية التي تصادر الحقوق وتستبيح الأرض والعرض والمقدَّسات.
إنها كلمات تعبّر عن عمق الإدراك لطبيعة المرحلة، وعن وعيٍ ناضج بضرورة إعادة صياغة الموقف العربي على قاعدة الثوابت لا على وَهْمِ التسويات أَو الارتباطات الخارجية.
وأشَارَ السيد القائد في كلمته إلى أن الحضور اليمني في مساندة غزة كان مميزًا وكَبيرًا بزخمه الشعبي الواسع وبحجم الموقف وبشمولية العمل في مختلف المجالات، وفي مقدمتها الجانب العسكري.
وأوضح أن هذا الموقف الشعبي والرسمي يعكس عمق الانتماء العربي والإسلامي للشعب اليمني، الذي يرى في الدفاع عن غزة دفاعًا عن كرامة الأُمَّــة جمعاء.
إن هذا الحضور يعبر عن الوعي الجمعي في اليمن بأن معركة غزة ليست بعيدة ولا منفصلة، بل هي امتداد لمعركة الأُمَّــة ضد الاستكبار والهيمنة، وأن من يقف مع فلسطين إنما يقف مع ذاته ومع شرفه وهويته الحضارية.
ولم يكتفِ السيد القائد بذلك، بل نبّه إلى محاولات الأعداء تشويه الدور الإيراني الداعم لقوى المقاومة، وسعيهم لتصوير الصراع وكأنه صراعٌ بين إيران والكيان الصهيوني، بينما الحقيقة – كما قال – أن البلاد المحتلّة بلاد عربية، وأن العدوّ الصهيوني يقتل العرب ويبيد العرب ويستبيح العرب.
إن هذا الموقف لا يعبّر فقط عن وضوح الرؤية تجاه هوية الصراع، بل يعيد التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية؛ باعتبَارها قضية الأُمَّــة كلها لا شأنًا خاصًا بدولةٍ بعينها أَو محورٍ بذاته.
لقد أوضح السيد الحوثي أن ثمرة الصمود في غزة وجبهات الإسناد، إلى جانب الصحوة العالمية في الشارع العربي والإسلامي، تمثل اليوم أهم العوامل الضاغطة على العدوّ لإعلان وقف العدوان.
فهذه الجبهات أثبتت أن الأُمَّــة ليست ضعيفة كما يُراد لها أن تبدو، وأن وحدة الموقف المقاوم كفيلة بتغيير موازين القوى.
من هنا جاءت دعوته إلى العمل الجاد لإفشال العدوّ الصهيوني والاحتفاظ بعناصر القوة والسعي الدائم لتنميتها؛ لأَنَّها الضمانة الحقيقية لاستمرار الأُمَّــة في مسار التحرّر والاستقلال.
إن الخطوة التي شهدها مؤتمر بيروت ليست مُجَـرّد لقاء سياسي أَو تظاهرة فكرية، بل هي إعلان عن ميلاد وعيٍ جديد، واصطفاف حضاري يزاوج بين القومية والإسلام في مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي.
فالقومية التي تنفصل عن الإسلام تتحول إلى هويةٍ جافة بلا روح، والإسلام الذي يتجاهل البعد القومي يفقد قدرته على تجسيد رسالته في واقع الأُمَّــة.
من هنا تأتي أهميّة اللقاء بين الإسلاميين والقوميين في هذه المرحلة المفصلية؛ لأَنَّه يعبّر عن عودة الوعي العربي إلى جذوره الأصيلة التي تجمع بين العروبة والإيمان، بين الانتماء والتكليف، بين الأرض والعقيدة.
لقد كان الخلاف بين الإسلاميين والقوميين في جوهره خلافًا على الطريق لا على الهدف، أما اليوم فقد تكشّفت المشاريع الموجهة لتمزيق الأُمَّــة وإخضاعها، وبات واضحًا أن العدوّ واحد، وأن ما يجمع الأُمَّــة أكثر بكثير مما يفرّقها.
من هنا، فإن هذا اللقاء في بيروت يعبّر عن إرادَة جديدة، تتجاوز الجراح التاريخية والانقسامات الأيديولوجية نحو مشروعٍ أممي جامع، يرى في المقاومة عنوانًا للعزة، وفي الوحدة طريقًا للتحرّر، وفي فلسطين بوصلته المركزية.
لقد أثبتت كلمات السيد عبدالملك الحوثي التي ألقاها في المؤتمر، بما حملته من وضوح وشجاعة، أن وحدة الصف العربي والإسلامي ليست حلمًا بعيد المنال، بل خيار واقعي يمكن أن يتحقّق متى ما تخلّت القوى الوطنية عن حساباتها الضيقة، وآمنت بأن مصير الأُمَّــة واحد.
إن الخطاب الذي يجمع بين الوعي الإيماني والرؤية القومية هو ما تحتاجه الأُمَّــة اليوم أكثر من أي وقت مضى، في زمنٍ يوشك فيه الاستعمار الجديد أن يعيد رسم خرائط المنطقة على حساب دماء الشعوب ومعاناتها.
إن ما حدث في بيروت هو أكثر من مؤتمر؛ إنه إعلانٌ عن تحوُّلٍ في الوعي الجمعي، وإشارة إلى أن الأُمَّـة لا تزال قادرة على النهوض متى ما التقت إرادتها حول قيم التحرّر والسيادة والكرامة.
ولعل الرسالةَ الأبلغَ التي خرج بها هذا المؤتمر، وكلمة السيد عبدالملك الحوثي تحديدًا، هي أن الهُوية الجامعة للأُمَّـة لا يمكنُ أن تُختزَلَ في مذهبٍ أَو حزبٍ أَو شعار، بل تتجسد في الموقف المقاوم، في الصمود، وفي رفض الذل والارتهان.
إنها لحظة عربية وإسلامية ينبغي أن تُلتقط بوعيٍ ومسؤولية، لتتحول إلى مشروعٍ جامعٍ يعيد للأُمَّـة حضورها ومكانتها ودورها التاريخي.
فحين يجتمع القومي والإسلامي على كلمةٍ سواء، وحين تتلاقى البُوصلة الفكرية مع البُوصلة الجهادية، فإن الأُمَّــة تستعيد اتّجاهها الصحيح، وتبدأ رحلة الخروج من التيه نحو فجرٍ جديد عنوانه: الوحدة، المقاومة، والكرامة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت

