طوفان الجنيد*

في كلّ الحروب التاريخية، وبالأخص حروب العصر الحديث حيث تهيمن التكنولوجيا والجيوش النظامية ذات الميزانيات الضخمة والتقنيات المتقدمة، تبرز من أرض اليمن الطيّب استراتيجيةٌ فريدة قديمة–حديثة أعادت للتاريخ التعريف الحقيقي لمفهوم القوة، ومعنى الإرادة والبسالة، وقلبت موازين الحسابات الاستراتيجية رأسًا على عقب.

إنها استراتيجية القبيلة اليمنية، بكل ما تحمله من رموز القيم الإنسانية السامية في الإباء والنخوة والكرامة والثبات على المبدأ، والقدرة الفطرية على رفض الظلم والاستعباد، وتبرهن على ذلك بالاحتشاد والنَّكف القبلي والزحف.

هذه الاستراتيجية ليست وليدة اللحظة، بل هي امتدادٌ لـ"جينوم" تاريخيٍّ من المقاومة والصمود. وقد تمكنت اليوم من إرباك واحدة من أكثر الجيوش تطورًا في المنطقة، فأذلّت وكسرت هيبة أعظم قوى الاستكبار العالمي، وكتبت تاريخًا جديدًا، وفرضت واقعًا مغايرًا لما كان مرسومًا في ذاكرة التاريخ، لتثبت أن إرادة الشعوب حين تتوحد حول قيمها الأصيلة تصبح أقوى من أي ترسانة عسكرية.

ماذا تعني القبيلة اليمنية؟
القبيلة اليمنية تُعد الركيزة الأساسية للمجتمع اليمني، وصمّام أمان كل قضية وكل حدث. فهي ليست مجرد نَسَب، بل هيكل تنظيمي متكامل.

غالبًا ما تُرى القبيلة من خارج السياق اليمني على أنها كيان بشري تقليدي منغلق، لكن الواقع يخبرنا غير ذلك. ففي ساحة المواجهة تتحول القبيلة إلى هيكلٍ شديد المرونة والتكيّف، عظيم البأس، صلب الإرادة، سريع الفاعلية. إنها "دولة مصغرة" تملك نظامها الاجتماعي المتماسك، وآلياتها لاتخاذ القرار، وقدرتها على تعبئة الرجال والموارد بسرعة مدهشة.

هذه المرونة عصيّة على الأعداء، وعلى الضربات المركّزة التي تنجح ضد الجيوش النظامية ذات التسلسل الهرمي الصارم. فعندما يُضرب قائد، ينهض عشرة غيره من قلب النسيج الاجتماعي نفسه، ليملأوا الفراغ دون تردد.

الهوية اليمنية للقبيلة… المحرك الأخلاقي الذي لا يُقهر:
النخوة القبلية ليست مجرد كلمة؛ إنها دستور حياة.
هي ذلك الحافز الأخلاقي العميق الذي يدفع الفرد إلى الفداء دفاعًا عن الأرض والعِرض والكرامة.
في مواجهة العدوان تتحول النخوة إلى طاقة مقاومة لا تنضب. فجنود الجيوش النظامية يقاتلون تنفيذًا لأوامر، بينما يقاتل المقاتل القبلي لأنه يستحيل عليه أن يرى أرضه تُدنَّس أو كرامة أهله تُهدَر.

هذا الفارق الجوهري في الدافع يخلق نوعًا من المقاتلين لا يعرف للاستسلام معنى، ولا يهاب الموت، بل يرجو الشهادة. إنه العامل النفسي الذي يصعب قياسه في معادلات القوة الغربية، لكنه العامل الحاسم في ميادين القتال.

الاحتشاد القبلي… فن الحرب السريع وغير المكلف:
الاحتشاد القبلي يمكّن من حشد آلاف المقاتلين في وقت قياسي وفي مناطق متفرقة، دون الحاجة إلى خطوط إمداد معقّدة أو تدريبات طويلة.
يعتمد هذا الاحتشاد على معرفة دقيقة بالجغرافيا المحليّة، وتحويل الجبال والوديان إلى حصون طبيعية ومرابض للصواريخ.

هذه الاستراتيجية تفرض على العدو الميكانيكي خوض حرب استنزاف في بيئة غير ملائمة، فتحوّل تفوقه التقني إلى عبء ثقيل. فكيف لقوة جوية متطورة أن تواجه مئات الأهداف الصغيرة المتحركة المنتشرة على نطاق شاسع من الجغرافيا؟

لماذا ترعب هذه الاستراتيجية "الكيان" تحديدًا؟
لقد صُدم الكيان الصهيوني وأعوانه من فعالية هذه الاستراتيجية لعدة أسباب:
1-تحييد التفوق الجوي: امتلاك السماء لا يعني امتلاك الأرض. قدرة القبائل على التخفي والتحرك بخفة، واستخدام الأنفاق والتمويه، جعلت الضربات الجوية عالية التكلفة قليلة المردود.
2- حرب الاستنزاف: تجبر استراتيجية الاحتشاد والقدرة على الصمود العدو على خوض حرب طويلة تُهدر موارده المالية والبشرية وتُسقط معنويات جنوده، بينما يزداد المقاومون قوة وإصرارًا.
3- صعوبة تحديد الهدف: من تضرب؟ لا ثكنات واضحة، ولا قيادة مركزية واحدة. القبيلة كلها جيش، والأرض كلها جبهة. وهذه اللامركزية كابوس لأي جهاز استخباراتي.
4- القوة الناعمة والإعلام: نجحت القبيلة اليمنية من خلال خطابها الأصيل وفعلها المقاوم في إرسال رسائل بالستية إلى العالم، وخلقت ضغطًا معنويًّا وسياسيًّا على الكيان، معززة مكانة اليمن كقلعة للعزة والكرامة والبأس الشديد.

الخاتمة:
القبيلة اليمنية، بطبيعتها الفريدة وهويتها الإيمانية وقدرتها على الحضور والاحتشاد، لم تكن مجرّد رد فعل على عدوان، بل قدمت نموذجًا استراتيجيًا فريدًا يثبت أن أعتى أنواع القوة لا تُقاس بأحدث العتاد والتقنية، بل بالإرادة التي لا تنكسر، والروح الإيمانية التي لا تتبعثر، والانتماء إلى الأرض الذي يتجاوز كل الحسابات.

لقد أعاد اليمن للأمة العربية درسًا في الكرامة، والقوة، والإرادة، والثبات، والمعنى الحقيقي للتعبير عن الذات ولغة القوة والاستعداد للمواجهة والزحف.
ففي هذا وجد الكيان المحتل وجيوش الهيمنة أن صيحات الغضب والنخوة والرغبة في المواجهة… أخوف في آذانهم من دويّ أعتى القنابل.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب