المال الخليجي يهيمن على الدراما العربية
محمد محسن الجوهري*
منذ أواخر التسعينيات، بدأت السعودية تدخل بثقلها إلى سوق الإنتاج الدرامي العربي، ليس من باب الإبداع فحسب، بل كجزء من مشروع ثقافي وإعلامي واسع يعيد تشكيل المزاج العام للمشاهد العربي. ومع صعود القنوات السعودية الكبرى — وعلى رأسها شبكة MBC — انتقلت الدراما من كونها مبادرات وطنية سورية ومصرية إلى كونها صناعة ضخمة تموَّل وتُدار من مركز واحد تقريبًا، اعتمدت الرياض على استراتيجيات القوة الناعمة عبر شراء شركات الإنتاج، واحتكار حقوق العرض، وتمويل المسلسلات المشتركة (pan-Arab drama)، مما جعلها الممول الأكبر للدراما العربية.
وبطبيعة الحال، أي جهة تموّل، هي التي تحدّد الإطار العام للمحتوى، والرسائل، والحدود.
وللتذكير، فإن الدراما العربية كانت تنتج مسلسلات بتوجهات قومية، فالدراما السورية كانت تقدّم أعمالًا مثل التغريبة الفلسطينية والخوالي، فيما أنتجت الدراما المصرية مسلسلات تتناول ملفات قومية مثل رأفت الهجان وفارس بلا جواد والمال والبنون، والتي تحدّثت عن الصراع العربي–الإسرائيلي، إلا أن هذا التوجه تغير تدريجياً مع هيمنة شركات الإنتاج السعودية والخليجية عموماً.
وبدلاً من ذلك رأينا الدراما، وحتى الكوميديا في مصر وسورية تتجه نحو أبعاد أخرى لا علاقة لها بهوية الأمة، وإنما تركز على إثارة الداخل الوطني ضد بعضه البعض، مثل مسلسل بقعة ضوء السوري الذي تسبب في موجة تذمر واسعة في الداخل السوري وعكس صورة سلبية عن الواقع السوري للخارج، ولعب دوراً في تفجير الوضع حتى عسكرياً في البلاد.
ومع مرور السنوات، لم يعد المال الخليجي مقتصرًا على إفراغ الدراما العربية من قضاياها الكبرى أو حرفها نحو الانشغالات الاجتماعية الصغيرة، وإنما تطوّر دوره إلى مرحلة أكثر خطورة تمثّلت في الترويج المباشر للتطبيع عبر أعمال درامية ضخمة، كانت جزءًا من مشروع سياسي وثقافي مكشوف. ففي الوقت الذي كان المشاهد العربي ينتظر موسم رمضان ليجد قصة تُعبّر عن ضميره وقضاياه، فوجئ بعروض درامية تتبنّى خطابًا مناقضًا تمامًا للوعي الجمعي، وتقدّم العدو الصهيوني في صورة "الجار الطيب" و"الإنسان المسالم" الذي لم يلقَ من العرب سوى الجحود والنكران.
ظهر مسلسل أم هارون كأحد أوضح الأمثلة على هذا التحول الذي عمل على إعادة صياغة للذاكرة تقوم على تزوير السياق وتحويل المحتل إلى ضحية. قدّم العمل اليهود الذين عاشوا في الخليج وكأنهم جماعة مضطهدة تبحث عن الأمن، متجاهلًا بالكامل الاحتلال والتهجير والمجازر التي ارتكبها الكيان منذ تأسيسه.
ثم جاء مسلسل المخرج 7 ليكمّل هذا التحوّل، لكن بأسلوب أكثر فجاجة. فالمسلسل الذي بُني على قالب كوميدي بسيط، حمل بين سطوره واحدة من أخطر الرسائل الإعلامية في تاريخ الدراما الخليجية وهي اتهام الشعب الفلسطيني نفسه بالجحود، وتصويره كطرف لا يستحق الدعم، بينما اعتبر أن العداء مع الكيان "ليس عداءً حقيقيًا" وأن المصالح الاقتصادية أهم من أي قضايا تاريخية أو أخلاقية.
بهذا الأسلوب، تحولت الدراما الخليجية من وسيلة ترفيه إلى وسيلة هندسة للوعي، تُعيد تشكيل الصورة الذهنية للعدو، وتشوّه ضحية الاحتلال، وتُمرّر رسائل سياسية حساسة تحت غطاء الفن. ومع انتشار هذه الأعمال وسيطرة منصات مثل "شاهد" وشبكات البث الخليجية على السوق العربي، باتت هذه الرسائل تصل إلى ملايين البيوت في وقت واحد، بما يجعل تأثيرها أخطر من أي خطاب سياسي مباشر.
وما كان خافيًا في سنوات سابقة من مجاملات دبلوماسية واتصالات خلف الستار، أصبح اليوم معلنًا في قالب درامي، يكشف حجم الانخراط الخليجي في مشروع التطبيع، ويبرهن أن الدراما لم تعد مجرد حقل فني، بل تحوّلت إلى ساحة صراع على الوعي، وإلى أداة تُستخدم لتمرير المواقف السياسية الأكثر حساسية تحت ستار الحكايات العائلية والحوارات الكوميدية.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

