محمد محسن الجوهري*

تمتاز اليمن بثروتها اللغوية الواسعة وتنوع لهجاتها ولكناتها لدرجة أن بعض القرى المتجاورة قد تمتاز عن بعضها البعض بصيغ ومفردات تخصها دون غيرها. إلا أن مفردات من قبيل "أبغى وعلشان وأشوف" هي من الدخيل على ألسنتنا وليست مفردات يمنية أصيلة، ولا ضير في ذلك لولا أن البعض منا قد يمضي سنوات في قرية يمنية أخرى غير بلدته ولا يغير شيئاً من مفرداته ولكنته، لكن بمجرد أن يمضي أشهراً قليلة في بلاد الخليج حتى يعود بلسانٍ معوّج ومطعّم بمفردات لا علاقة لها بأصله وثقافته، وهذا هو التخلجن أو التشبه بسكان الخليج لا لشيء سوى أنهم من المترفين لا أكثر.

قد يُبرر البعض استخدام هذه المفردات بدافع الاندماج السريع في مجتمعات العمل الجديدة. ولكن التحدي الأكبر يكمن في البعد النفسي للظاهرة؛ حيث يُلاحظ أن بعض المغتربين الذين يحافظون على لكنتهم في قراهم الأصلية، يتغير لسانهم بمجرد قضاء أشهر قليلة في بلاد الخليج. هنا، يتحول الأمر من مجرد ضرورة للتواصل إلى محاولة للتشبه أو البحث عن “برستيج” وهمي، أو ما يُعتقد أنه يمثل “الاحترافية” أو “الرقي”. وكأن الحفاظ على اللسان اليمني الأصيل هو نوع من التخلف، بينما “التخلجن” هو رمز للانفتاح والتطور. وهذا التغير السريع في اللهجة يكشف عن هشاشة في الوعي بالهوية اللغوية.

أما الجانب الأكثر إثارة للقلق، فهو ما يُوصف بـ “الانحراف على الريحة”؛ أي تبني المفردات الدخيلة دون دافع الهجرة والعمل المباشر. حيث يقتصر دافع البعض في هذا “التخلجن” على الاستهلاك المستمر للإعلام والدراما الخليجية، ما قد يولد لديه اعتقاداً بأن التشبه بهذه اللهجة هو من دواعي “التحضر” و“مواكبة العصر”، بينما يتم النظر إلى اللسان اليمني الأصيل على أنه رمز لـ“التخلف”. هذا الدافع يمثل في جوهره نوعاً من الاستلاب الثقافي وعقدة الدونية. فالشخص يختار طوعاً التخلي عن مفرداته التي تحمل تاريخاً يمتد لآلاف السنين وارتباطاً بالفصحى، ليتبنى بدلاً عنها لهجة ترتبط بكيانات حديثة النشأة لا يتجاوز تاريخها بضعة عقود. وهذا التبني السطحي يؤكد أن الدافع ليس الحاجة للتواصل، بل محاولة اكتساب هوية اجتماعية مغايرة ومزيفة في الداخل والخارج.

لا يقتصر “التطعيم اللغوي” على المفردات الخليجية فحسب، بل يمتد ليشمل إقحام الكلمات الغربية، خصوصاً الإنجليزية، في سياق الحديث العربي البحت. فاليمني، بصفته متحدثاً أصيلاً للعربية، يمتلك مفردات غزيرة للتعبير عن أي فكرة. فلماذا يتم اللجوء إلى مفردات مثل “شير” (Share)، أو “ديل” (Deal)، أو “أوكيه” (Okay) في حوارات يمنية بسيطة؟ هنا يكمن الخطر في أن الهدف ليس سد نقص لغوي أو تسهيل التواصل، بل هو التعالي وإظهار التفوق الاجتماعي أو الأكاديمي أو الانفتاح على “المدنية”. إن استخدام هذه الكلمات يصبح مؤشراً طبقياً مزيفاً (Status Symbol)، حيث يُفترض أن من يتحدث بلغة “هجينة” قد ارتقى على من بقي متمسكاً بلسانه الأصيل. إنها عقدة أخرى لا تقل خطورة، تهدف إلى إقصاء الآخر والتميز عليه عبر حاجز لغوي مصطنع، يؤكد من جديد حالة الاستلاب اللغوي التي يعاني منها البعض.

يتضح أن ظاهرة تسرب المفردات الدخيلة، سواء من لهجات الخليج (“التخلجن”) أو من اللغات الغربية كالإنجليزية، تتجاوز مجرد التغيير اللغوي العابر. إنها تكشف عن أزمة هوية عميقة وهشاشة في الوعي بالذات اللغوية لدى البعض. إن التخلي عن اللسان اليمني الأصيل، ذي الجذور الفصيحة والتاريخ الطويل، وتبني لهجات مستوردة أو هجينة، لا يتم بدافع الحاجة للتواصل، بل بدافع اكتساب “برستيج” وهمي أو الشعور بـ“التحضر” المزعوم. هذا السلوك يمثل في جوهره استلاباً ثقافياً وعقدة دونية تدفع الفرد إلى استخدام اللسان كأداة للتعالي الاجتماعي والتميز الزائف.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب