السياسة الأمنية الجديدة للأمن القومي الأميركي ونصف الكرة الغربي
السياسية - كيان الأسدي*
تتجه الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب نحو إعادة بناء رؤية شاملة للأمن القومي، رؤية تتجاوز الأطر التقليدية التي حكمت السلوك الأميركي في العقود الماضية، وتعمل على رسم خريطة جديدة للأولويات والمصالح الحيوية. ويبدو واضحًا أن ترامب ينطلق من قناعة راسخة بأن استمرار السياسات السابقة سيقود الولايات المتحدة إلى فقدان موقعها القيادي في العالم، خصوصًا داخل القارة الأوروبية التي تعدّ تاريخيًا الامتداد الطبيعي لنفوذ واشنطن. ومن هنا، تحاول الإدارة إعادة طرح نفسها بوصفها قوة ضامنة للاستقرار العالمي، بما يشبه عودة “شرطي العالم” لكن بصيغة أشد حزمًا ووضوحًا.
يعتمد ترامب في مشروعه هذا على قراءة للتغيرات الدولية، فهو يرى صعود الصين الاقتصادي بوصفه التهديد الأكبر للولايات المتحدة، بل يضعه في مرتبة تفوق الأزمات المتلاحقة في الشرق الأوسط أو النفوذ الإيراني كما يزعم . فواشنطن وفق هذا المنظور انهمكت طويلًا في حروب استنزافية في المنطقة، بينما كانت بكين تتقدم بخطى صامتة لكنها ثابتة، تبني اقتصادًا ضخمًا، وتتمدّد في الأسواق العالمية، وتضع يدها على طرق التجارة والممرات البحرية، وتستخدم قوتها الاقتصادية لفرض نفوذ ناعم لكنه مؤثر.
وفي الجزء الغربي من الكرة الأرضية، تسعى واشنطن إلى إعادة تثبيت حضورها في أميركا اللاتينية، تلك المنطقة التي تُعد ضمن المجال الحيوي المباشر للولايات المتحدة منذ مبدأ مونرو في القرن التاسع عشر. وهنا يبرز ملف فنزويلا بوصفه إحدى أهم نقاط التوتر، حيث تُسوّق واشنطن وجودها العسكري ونشاطها الاستخباراتي تحت غطاء “مكافحة المخدرات” أو محاربة شبكات التهريب. غير أن هذا التوصيف يبدو مجرد واجهة لمواجهة سياسية واقتصادية أعمق، إذ تمثل فنزويلا نموذجًا للدولة التي ترفض الخضوع للهيمنة الأميركية، وتملك في الوقت نفسه ثروات نفطية ضخمة وموقعًا استراتيجيًا حساسًا، ما يجعلها ساحة صراع مفتوحة بين واشنطن ومحور مناهض لسياساتها في المنطقة.
أما في أوروبا، فيظهر الملف الروسي بوصفه تحديًا لا يقل خطورة عن التوسع الصيني. فروسيا استطاعت، من خلال حرب أوكرانيا وما رافقها من تحولات سياسية واقتصادية، أن تفرض نفسها لاعبًا محوريًا لا يمكن تجاوزه. وصمود موسكو، بل ونجاحها في تعديل معادلات القوة، جعل الكثير من العواصم الأوروبية تعيد حساباتها، الأمر الذي تُعدّه واشنطن تراجعًا لنفوذها التقليدي في القارة العجوز. وتحاول إدارة ترامب اليوم مواجهة هذا الواقع من خلال الضغط على روسيا وتقليص نفوذها، وفي الوقت نفسه دفع أوروبا إلى التماهي مع السياسة الأميركية، رغم تزايد الفجوة بين الأوروبيين وواشنطن بسبب أزمات الطاقة والاقتصاد.
وترى الإدارة الأميركية أن أي توسع روسي لا يقتصر على الحدود العسكرية أو السياسية فحسب، بل يمتد ليهدد بنية التحالفات الغربية، وعلى رأسها حلف الناتو. لذلك، تحاول واشنطن استخدام الأزمة الأوكرانية لإعادة تجميع نفوذها، لكنها في الوقت نفسه لا ترغب في الانخراط في حرب مباشرة؛ فتدفع أوكرانيا وحلفاءها الأوروبيين إلى تحمل كلفة المواجهة، وهو ما يخلق واقعًا معقدًا يتداخل فيه التردد الأميركي مع القوة الروسية الصاعدة.
وفي مواجهة الصين، تتضح ملامح صراع من نوع آخر، صراع لا يُدار عبر الجيوش بقدر ما يُدار عبر الأسواق وسلاسل التوريد وتكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي. فالصين، بإستراتيجيتها القائمة على “الإزاحة الباردة”، لا تسعى إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بل تعمل على بناء منظومة اقتصادية تجعل الدول ترتبط بها أكثر مما ترتبط بالولايات المتحدة. وهذا النهج يشكل تهديدًا وجوديًا في نظر ترامب الذي يرى أن التفوق الاقتصادي هو أساس القوة الأميركية. ومع استمرار تشتت واشنطن في حروب الشرق الأوسط وأوروبا، يتسع الفارق الاقتصادي بين البلدين، ما يعزز المخاوف من تراجع موقع الولايات المتحدة عالميًا.
وإذا جمعنا هذه العناصر مجتمعة، نرى أن السياسية الأمنية الأميركية الجديدة تهدف إلى وقف النزيف الاستراتيجي الذي عانت منه واشنطن منذ سنوات، وإعادة بناء حضورها في الميادين الثلاثة: الشرق الأوسط، وأوروبا، والجزء الغربي من الكرة الأرضية. وبينما تحاول إدارة ترامب الظهور بمظهر المبادِر، فإن نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد على قدرتها في الانتقال من سياسة ردود الفعل إلى صناعة المبادرة، ومن إدارة الأزمات إلى منع وقوعها، ومن الانخراط المفرط في الحروب إلى استخدام أدوات أكثر ذكاءً وفاعلية.
وعلى الرغم من طموح هذه الرؤية، فإن الطريق أمامها مليء بالتحديات. فالعالم لم يعد يقبل بسهولة بقيادة أحادية، وفاعلون جدد يزاحمون واشنطن في كل مجال: اقتصادًا، وسياسة، وتكنولوجيا.
ومع ذلك، تبقى الولايات المتحدة قوة مركزية في النظام الدولي، قادرة على التأثير في مسار الأحداث إذا ما امتلكت رؤية واضحة، وهو ما يحاول ترامب اليوم إعادة صياغته في سياق عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.
*المقال يعبر عن راي الكاتب

