التحَرّكات الانفصالية في اليمن: أدوات أم مشروع؟ وما مصير المواجهة القادمة؟
عبدالملك العتاكي*
لطالما كان اليمن -بوَحدته وتنوعه- عصيًّا على التقسيم، لكن رياح الصراعات الإقليمية والأجندات المتضاربة هبَّت على أرضه، حاملةً معها بذور التفتيت.. والحديث عن التحَرّكات الانفصالية داخل اليمن ليس مُجَـرّد سرد لتاريخ من المطالب، بل هو تشريح لواقع معقَّد تتدخَّل فيه أيادٍ خارجيةٌ لإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية لجنوب الجزيرة العربية.
سوف نكشف خيوط هذه التحَرّكات، ونحدّد اللاعبين الرئيسيين خلفها، بما في ذلك اليد الخفية التي توجّـه هذا التمزيق، وماذا يخبئ المستقبل؟
التحَرّكات الانفصالية: أدَاة لتمزيق الوحدة
التحَرّكات الانفصالية في جنوب اليمن، التي يتصدرها "المجلس الانتقالي الجنوبي"، تكتسب زخمها من ظروف الحرب والانهيار المؤسّسي.
لكن السؤال الأهم ليس عن وجود هذه المطالب، بل عن توقيتها وظروف تناميها.
فبعد حرب 1994، خفتت حدّة المطالب الانفصالية لتعود بقوة بعد عام 2015، ليس كحركة شعبيّة مستقلة في المقام الأول، بل كذراع عسكرية وسياسية نشأت وتضخمت في ظل دعم وتمويل خارجي مباشر.
إن هذه التحَرّكات، في جوهرها، تستغل المظالم التاريخية وتراكمات الإهمال لتحويلها إلى وقود لـ"الاحتلال المقنَّع".
لم يكن الهدف المعلن هو تقسيم اليمن، لكن الممارسات على الأرض، من دعم وتشجيع لفصائل بعينها وتمكينها عسكريًّا وإداريًّا، تشير إلى أن تفتيت الدولة المركزية هو أحد الأهداف الضمنية التي تسهل السيطرة على الموانئ والجزر والموارد الطبيعية الاستراتيجية.
اللاعبون خلف الستار.. من يدير تمزيق اليمن؟
هذه التحَرّكات الانفصالية ليست بذرة يمنية خالصة؛ بل هي نبتة اصطناعية زرعتها ورعتها أيادٍ إقليمية لتنمو بسرعة، مدفوعة بتمويل ضخم وخبرة عسكرية خارجية.
تقف الإمارات في مقدمة الداعمين للانفصال، ليس حبًّا في الجنوب؛ بل لأَنَّها تنظر إلى اليمن كغنيمة استراتيجية.
هدف أبوظبي هو اقتلاع الموانئ والجزر الحسَّاسة كـ(سقطرى وميون) لتكريس نفوذها البحري، وهي تفعل ذلك أولًا لخدمة أجندة كَيان الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة.
لن يكتمل هذا المشروع الاستعماري الجديد إلا بتحويل اليمن إلى جثة مفككة وضعيفة.
أما السعوديّة، فتكيَّفت مع الأمر الواقع، مستخدمةً هذه الفصائل كورقة ضغط في صراعات النفوذ، ولضمان حزام أمني يمنع قيام أي كيان مركزي قوي على حدودها الجنوبية.
وبذلك، تصبح القوى الإقليمية الضالعة في اليمن أدوات لتفكيك الدولة، بينما تحولت بعض الأطراف اليمنية الداخلية من الخونة إلى مُجَـرّد أدوات محلية لتنفيذ هذه الأجندات، مقابل مكاسب شخصية ومالية.
اليد الخفية: بُعد الكيان الإسرائيلي في معادلة الاحتلال
هنا يكمن العمق الحقيقي للمشهد.
فما تفعله الرياض وأبوظبي في اليمن ليس قرارًا معزولًا عن الأجندة الإقليمية الأكبر التي تحكمها مصالح قوى دولية وكيانات تسعى للهيمنة على المنطقة.
إن الدور السعوديّ والإماراتي في تمزيق اليمن واستنزاف قوته يأتي ضمن إطار التطبيع الخفي والمصالح الاستراتيجية المشتركة مع كَيان الاحتلال الإسرائيلي.
إن الكيان، الذي يخشى وجود أية قوة عربية حقيقية وموحدة، يرى في تفتيت اليمن إلى دويلات متناحرة هدفًا استراتيجيًّا ذا أولوية قصوى.
فَـإنَّ دعم التحَرّكات الانفصالية، التي تستنزف اليمن وتُضعف مقاومته، يخدم بشكل غير مباشر، وربما بتوجيه مباشر، هدف كَيان الاحتلال الإسرائيلي في ضمان تفكك محيطه وتأمين هيمنته الاقتصادية والأمنية.
لذلك، فَـإنَّ القوى الإقليمية في هذا المشهد ما هي إلا وكلاء لتنفيذ أجندة أكبر، هدفها النهائي هو إبقاء اليمن والمنطقة في حالة ضعف دائم لضمان تفوق وهيمنة الكيان على الملاحة والموارد الإقليمية.
الخيار الوحيد: مواجهة الاحتلال السعوديّ الإماراتي
يتكشّف بوضوح أن مصدر التفتيت والدمار والنهب هو الاحتلال المقنَّع الذي تمارسه القوات السعوديّة والإماراتية ومرتزِقتها المحليون.
الاحتلال المقنَّع: هو السيطرة الفعلية على الموانئ والجزر والموارد والقرار السياسي والعسكري في المناطق الجنوبية والشرقية، مع استخدام أطراف يمنية كواجهة إدارية.
الخيار لم يعد يتعلق بمفاوضات هَشَّة بين الأطراف اليمنية المتنازعة، بل ينبغي تحويل البوصلة نحو جذر المشكلة: تحرير الأرض من كُـلّ أشكال الوصاية والوجود الأجنبي.
إن الوحدة أَو الانفصال قضيتان داخليتان لا يمكن حلُّهما في ظل وجود قوة محتلّة تدير المعادلة وتوزع الأدوار.
في هذا السياق، يشدّد السيد عبدالملك الحوثي (يحفظه الله) مرارًا على أن "العدوَّ الأَسَاسي هو العدوان والاحتلال، والخروجُ من الوصاية الأجنبية هو البوابةُ لكل الحلول الأُخرى".
ويؤكّـدُ أن ما يجري هو محاولة لـ"تفكيك البلاد ونهب ثرواتها وتقسيمها إلى فصائلَ متصارعة تابعة للخارج"، وأن "الخيار الاستراتيجي الأوحد" للشعب هو توحيدُ الصفوف الوطنية تحت هدف مواجهة الاحتلال.
فبزواله، يمكن لليمنيين أن يقرّروا مصيرهم في بيئة وطنية حرة.
التوقعات القادمة تشير إلى سيناريوهات شديدة التعقيد:
(١) الاحتواء والتجميد: لن تسمح القوى الإقليمية حَـاليًّا بإعلان انفصال كامل وناجز؛ لأَنَّه يفتح الباب أمام مطالبات أُخرى.
الأرجح هو الإبقاء على وضع "السيطرة الذاتية" الذي يخدم مصالح الإمارات والسعوديّة، وهو ما يمكن تسميته بـ "الانفصال المؤجَّل".
(٢) تصعيد المقاومة الشعبيّة: مع استمرار نهب الثروات والانتهاكات في المحافظات الجنوبية، من المتوقع أن تزداد وتيرة المقاومة الشعبيّة ضد القوات المدعومة إماراتيًّا، حتى من أطراف كانت متحالفة سابقًا؛ مما يؤدي إلى تآكل نفوذ الأطراف العميلة واضطراب في مناطق سيطرتها.
(٣) إعادة تعريف الصراع: من المرجح أن يتحول الخطاب الوطني بشكل متزايد ليُركز على العدوان والاحتلال بدلًا عن الصراع الداخلي.
وهذا سيجعل المواجهة القادمة أكثر وضوحًا في تحديد العدوّ وأهداف المقاومة.
إن اليمن على أعتاب مرحلة تتطلب تضحية سياسية وعسكرية، ومواجهة شاملة تُعيد لليمن قرارَه وكلمتَه.
التحَرُّكات الانفصالية هي مُجَـرّدُ فصل من فصول المؤامرة، لكن اليقظة الوطنية تكمن في إدراك أن الطريق إلى استعادة الدولة الموحَّدة أَو المقسَّمة (بقرار يمني خالص) يبدأ من نقطة واحدة: إنهاء كُـلّ أشكال الاحتلال الإقليمي والوصاية الخارجية.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت

