كيان الأسدي*

إذا أمعنّا النظر في السطور الخفيّة لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي، فسنعثر على النسخة ذاتها التي جاء بها ترامب في ولايته الأولى: سياسة المنع، أي منع القوى الصاعدة من التمدّد واكتساب النفوذ العالمي، وفي مقدّمتها الصين. وهذا يعني أن المرحلة المقبلة ستختلف أولوياتها عمّا مضى؛ إذ يعتقد ترامب أنه نجح في تأخير المشروع النووي الإيراني عبر الضربة العسكرية التي وجّهها، ما يراه تقليصاً مؤقّتاً للخطر أو دفعه إلى الأمام، فيما تعتبر "إسرائيل" أنها أضعفت قوى المقاومة، وهو ما يمنح المصالح الأميركية فترة ارتياح مرحلي قد تطول في تقديره، لتتفرّغ واشنطن بعدها لملف الصين.

غير أنّ هذا الارتياح لا يعني غياب الحضور الأميركي أو انكفاء مشاريعه الخبيثة في المنطقة، بل يعني تقليص مستوى الاهتمام، كما ورد صراحة في الفقرة (د) من استراتيجية الأمن القومي. أي إن واشنطن ستعود إلى أدواتها التقليدية: دعم الحركات الموالية، واستئناف ما توقّف في السنوات الماضية. ويبدو أن ترامب قد أُعجب بالدروس التي استخلصتها بلاده من التجربة السورية وما أفضت إليه من تحوّلات ساهمت، بشكل أو بآخر، في دفع مشروع "الشرق الأوسط الجديد" خطوةً إضافية إلى الأمام.

ومع ذلك، فالسياسة الأميركية لا تلتزم بما يُكتب على الورق؛ هي كثيرة التناقض، تماماً كشخصية ترامب المتقلّبة. فهو يدعو إلى تخفيف العبء عن الولايات المتحدة وتقليص وجودها في الشرق الأوسط، لكنه في الوقت ذاته يضع في "خطة السلام" وجوداً أميركياً في غزة، ويثبت قواته في قواعد إسرائيلية على حدودها وفي مراكز القيادة والسيطرة، وكذلك على الحدود اللبنانية. بل إنه يناقش مع الجولاني إمكانية وجود أميركي في دمشق، إلى جانب مشروع "المنطقة العازلة" في جنوب لبنان، والتي لن تخلو هي الأخرى من حضور أميركي.

هذا الخليط من التناقضات يكشف أن مشروع ترامب المقبل هو "الفوضى الخلّاقة"، أداة لإشغال المقاومة في معارك استنزاف طويلة، فيما يمضي مشروعٌ آخر نحو الاكتمال مع نهاية ولايته: مشروع "إسرائيل الكبرى". ولن يتحقق ذلك إلا بإزالة العقبات، وتمزيق الساحات المحيطة: فلبنان ستنهكه فوضى الجولاني، وتركيا ستكون هدفاً لعرقلتها دورها في مواجهة التمدّد الإسرائيلي في سوريا، أما مصر فهي جزء من الطوق الجغرافي الذي تنظر إليه تل أبيب دائماً بوصفه تهديداً، والأردن — رغم انبطاح نظامه — لم يسلم من تصريحات نتنياهو التي تشير إلى إمكانية تحوّله إلى خطر محتمل. وصولاً إلى العراق، العمق الروحي والتلمودي الذي يشتهي الصهاينة بلوغه لتعزيز سرديتهم وإقامة "كيانهم" المزعوم.

أمّا أدوات هذه الفوضى فهي الدول المطبّعة سراً وعلناً، وفي مقدّمتها الإمارات والسعودية، اللتان مارستا في اليمن سياسة ضرب الجبهة الداخلية عبر جماعات الإخوان والعملاء، وتكرّر الإمارات التجربة ذاتها في السودان. وفي العراق تلعب أجهزة سورية بإدارة إماراتية – قطرية على وتر تجنيس السوريين وتوطينهم في المناطق الغربية، وهي شرارة قادرة على إشعال انفجار كبير إذا لم يُستدرَك مبكراً.

كل هذه المشاريع، في رؤية ترامب، تخفّف العبء عن الولايات المتحدة؛ فهناك مَن ينفّذ، ومَن يمول، والمال العربي حاضرٌ في كل مشهد، يعمل أداةً طيّعة لتحريك مخططات واشنطن في الشرق.

• المقال يعبر عن رأي الكاتب