كيف سيطر الصهاينة على عقول العرب؟
السياسية || محمد محسن الجوهري*
يدرك اليهود أن أي نصرٍ عسكري لابد أن يسبقه هزيمة نفسية للعدو، وهكذا ركزت "إسرائيل" كل طاقتها على العقول قبل الميدان، وبدأت معركة السيطرة على الوعي، وهندسة متقنة للوعي الجمعي العربي، حتى تنفرد بكل بلدٍ على حده، وتشغل الآخرين بأساليب أخرى من الحروب العبثية حتى يأتي دورها وتنال ما ناله العرب السابقون من الويلات والحروب والدمار، وقد نجح الكيان إلى حدٍ كبير في تغيير نظرة كثير من العرب للصراع، ولأنفسهم، ولعدوهم.
فخلال السنوات الأولى من الصراع، تمكنت "إسرائيل" من زرع عقدة الهزيمة في الوعي العربي، خاصة بعد الهزائم المتكررة كالنكبة عام 1948م، ونكسة حزيران 1967م، ما جعل الإعلام العربي يستسلم لرواية "الجيش الذي لا يُقهر" ، وصنعت تلك الرواية المتكررة من "إسرائيل" كيانًا أسطوريًا في التقنية والعلم والانضباط، مقابل "التخلف العربي". هذا الترويج المتعمد لم يكن بريئًا، بل مدروسًا وممنهجًا، زُرعت من خلاله في العقل العربي نواة الإعجاب القهري بالعدو.
وفي سبيل ذلك، وظفت تل أبيب النخب السياسية والثقافية العربية نفسها لتخوض عنها المعركة داخل أوطانهم. فصارت المقاومة الفلسطينية واللبنانية تُصوَّر في الخطاب الإعلامي العربي الرسمي على أنها مغامرة غير محسوبة، أو تطرف، أو سبب في خراب الشعوب. في المقابل، رُوّج لمشاريع "السلام" و"التطبيع" باعتبارها ذروة النضج السياسي، والعقلانية الواقعية، وكأن الكرامة باتت نوعًا من الهوس، والمواجهة صارت جريمة، والذلّ حكمة!
هذه الهندسة النفسية لم تتوقف عند الجانب السياسي فقط، بل امتدت إلى الأدب والفن والدراما والرياضة. ظهرت شخصيات عربية تتحدث باسم "التسامح"، لتبييض صورة "إسرائيل"، ومحو الجريمة الأصلية: اغتصاب الأرض، وتشريد الشعب، وفي الوقت نفسه لم تمارس التسامح مع المعتدى عليهم، بل راحت تهاجم كل من يرفض التطبيع، وتعتبره عدوًا للسلام، وبأنه متطرف يعطّل التقدّم العربي.
الأخطر من ذلك كله، أن "إسرائيل" وجدت في بعض النخب العربية من يقوم بدورها في تفكيك الذاكرة. فظهرت تحليلات تقول إن الصراع ليس مع "إسرائيل"، بل مع إيران، أو مع المقاومة الإسلامية، أو مع حركات التحرر. صارت بعض العواصم العربية تفتح أذرعها للعدو، وتغلقها في وجه الفلسطينيين، وتستضيف مجرمين صهاينة في حين تعتقل من يرفع علم فلسطين في ملاعبها أو جامعاتها. لقد نجحت "إسرائيل" في تحويل بعض العقول العربية إلى أدوات في خدمتها، يقاتلون باسمها، وينظِّرون لها، ويخوّنون من يعارضها.
ولم يكن هذا ليتم لولا اختراقها العميق للإعلام العربي. أنشأت شبكات من التأثير، أو دعمت مؤسسات إعلامية ومراكز أبحاث تتبنى روايتها. صار يظهر على الشاشات كتّاب ومحللون عرب ينقلون وجهة النظر الصهيونية بلغة عربية سلسة، ويقنعون الجماهير أن "إسرائيل تحمي نفسها"، وأن "الاحتلال له ما يبرره"، وأن "الشعب الفلسطيني ضحية قيادته لا عدوه".
في ذات الوقت، اشتغلت "إسرائيل" على تحويل مفهوم "العدو" في العقل العربي. لم تعد هي العدو الأول، بل جرى تقديم أعداء بدائل: إيران، الإسلام السياسي، اليمن، النظام السوري، حزب الله، حماس، وكل من يقاوم، بحيث يصبح "العدو الداخلي" أخطر من العدو الخارجي. وهكذا ضاعت البوصلة، وتبدّل ترتيب الأولويات في الوعي العام، وأصبحت "إسرائيل" بالنسبة لبعض الشعوب كيانًا بعيدًا غير معني بهم، أو حتى دولة "عقلانية يمكن التفاهم معها".
السيطرة الإسرائيلية على الوعي العربي لم تكتفِ بالتضليل، بل أعادت تعريف مفاهيم مثل الكرامة، والواقعية، والوطنية. وأصبح كثير من العرب يرون في الصهيوني رجل دولة مسؤول، بينما يرون في المقاوم عبثيًا متهورًا. تفكيك الوعي لا يعني فقط الانبهار بالعدو، بل أن يتحول الإنسان إلى عدو نفسه، يجلدها، ويشكك في قضيته، ويحتقر من يدافع عنها.
ومع ذلك، لم تنجح هذه الحرب النفسية كليًا. فقد بقي تيار واسع من الوعي الشعبي العربي حيًا، يقاوم هذا الاختراق، ويعيد قراءة المشهد بعيون نقدية. تنامت مقاومة إلكترونية، وثقافية، وشبابية، تفضح أساليب التطبيع، وتستعيد سردية النضال. فبينما تحاول "إسرائيل" ترسيخ فكرة "القبول الهادئ"، تنبض الأمة في كل مرة بغضب فلسطيني جديد، يذكّرنا أن الصراع لم يُحسم، وأن المعركة الحقيقية هي معركة وعي، فالعدو الحقيقي ليس فقط من يحتل الأرض، بل من يحتل العقل، ويزرع فيك أنه لا جدوى من الجهاد والمقاومة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب